ما حققته الصين خلال أقل من عقدين من تطور اقتصادي مذهل ، هو معجزة بكل المقاييس ، كما يفصل ذلك “الفيل والتنين” لروبين ميريديث ، الصادر عام 2007 ، والمترجم إلى العربية ضمن سلسلة عالم المعرفة كانون الثاني 2009 ، ففي الوقت الذي عانت منه هذه البلاد من مجاعة خلال الفترة من 1958 – 1962 ، حيث قضى الجوع على30 – 40 مليون صيني ، وسجلت وقائع إقدام البعض على أكل لحوم البشر ، استطاعت القيادة الصينية أن تضع يدها على أسرار الصعود الاقتصادي في العالم ، مستفيدة من تجربة سنغافورة على وجه الخصوص ، حيث تجاوز الدخل الفردي 2000 دولار عام 2006 ، في حين كان قبل عشرين سنة لا يتجاوز 16 دولارا للعامل.
وبقراءة متأنية للملف الاقتصادي الصيني، تطالعنا أرقام قياسية، فقد وصل الناتج المحلى الإجمالي الصيني إلى 66ر24 تريليون يوان (43ر3 تريليون دولار أمريكي) في عام 2007 بزيادة نسبتها 4ر11 بالمائة على أساس سنوي، محتلا المرتبة الثالثة عالميا، وارتفعت استثمارات الأصول الثابتة الصينية في العام ذاته بنسبة 8ر24 بالمائة على أساس سنوي، وقفز الإنتاج الصناعي الصيني بنسبة 5ر18 بالمائة في العام ذاته بزيادة 9ر1 نقطة مئوية عن العام الأسبق، وبلغ حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة التي تدفقت إلى الصين خلال العام ذاته 7ر74 مليار دولار أمريكي، وسط توقعات بأن تصل قيمة الاستثمارات الصينية في الخارج إلى 20 مليار دولار أمريكي عام 2008، وهو رقم يزيد ثماني مرات عن الرقم سنة 2002 والبالغ 5ر2 مليار دولار. وسجل إجمالي حجم التجارة الخارجية 17ر2 تريليون دولار أمريكي العام الماضي، بعد أن كان 8ر620 مليار دولار في العام 2002، محتلا المرتبة الثالثة عالميا، و بلغ احتياطي العملات الصعبة 5ر1 تريليون دولار أمريكي محتلا المرتبة الأولى عالميا.
فالمصانع الصينية تنتج يوميا حمولة 160 ألف شاحنة ، كما أنها تنتج أكثر من ثلث الأحذية ، التي يستهلكها العالم ، وصدرت أجهزة كمبيوتر بقيمة 20 مليارا عام 2006 ، كما أقامت أكثر من 20 ألف مصنع لألعاب الأطفال ، بكلفة حوالي 80 مليارا ، من الدولارات وأصبحت هي المنتج الأكبر لهذه الصناعة في العالم. وفي شأن البنية التحتية ، والتي كانت سببا رئيسا في حدوث المعجزة ، نجد أن الخطوط السريعة ، لم يتجاوز طولها أواخر السبعينات من القرن الماضي 178 ميلا ، لتصبح في عام 2006 أربعين ألفا ، ومن المقرر أن تتجاوز 50 ألف ميل عام 2010.
وقدر الكتاب ان معدل تدفق الاستثمارات إلى بلاد التنين ، يتجاوز سنويا 70 مليارا ، وأن نموها السنوي تجاوز %13 لعدة سنوات وهو أعلى نمو في العالم ، ولن يقل هذا العام عن 9% رغم الأزمة العالمية ، وأقامت معظم الشركات الأميركية والأوروبية الكبرى فروعا لها في هذه البلاد الشاسعة ، بسبب رخص الأيدي العاملة ، ما ترتب عليه تدريب وتأهيل ملايين العمال الصينيين ، والذي كان سببا في التقدم والتطور ، والفوز في المنافسة مع الدول الأخرى ، فنجد أن شركة فيليبس الهولندية تستخدم أكثر من 85 ألف عامل صيني في فروعها داخل الصين.
إن هذه النهضة الصناعية الملفتة للنظر ، حيث تمتد المصانع خارج المدن وعلى امتداد البصر ، أدت إلى زيادة عدد الطبقة الوسطى حيث تجاوز عددها 200 مليون ، ودخول آلاف الصينيين إلى نادي الأثرياء ، إذ قدر عددهم بأكثر من 220 ألفا ، إلى جانب انتشار ناطحات السحاب ، والتي بلغ عددها في مدينة شنغهاي وحدها 3780 ناطحة ، أي أكثر من مجموع الناطحات في تكساس ودالاس بالولايات المتحدة الأميركية.
منذ التحرير الاقتصادي عام 1978 نما اقتصاد جمهورية الصين الشعبية المعتمد على الاستثمار والتصدير، 70 مرة وأصبح أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً في العالم. الصين عضو في منظمة التجارة العالمية، وإبيك وهي ثاني قوة تجارية في العالم خلف الولايات المتحدة حيث تبلغ تجارتها الدولية 2.21$ ترليون (1.20$ ترليون من الصادرات (#1) و1.01$ ترليون من الواردات (#2). يبلغ احتياطي البلاد من النقد الأجنبي 2.4$ ترليون، مما يضعها في المرتبة الأولى عالمياً في هذا المجال. تمتلك جمهورية الصين الشعبية ما يقدر بنحو 1.6 ترليون دولار من سندات الضمان الأمريكية. تعتبر جمهورية الصين الشعبية أكبر ممتلك أجنبي للسندات الأجنبية الخاصة بالدين العام الأمريكي، إذ تستحوذ على 801.5$ مليار من سندات الخزينة. تصنف البلاد ثالثة من حيث حجم الاستثمار الأجنبي المباشر فيها، حيث جذبت 92.4$ مليار دولار في عام 2008 وحده، كما أنها تستثمر بصورة متزايدة في الخارج بمبلغ إجمالي قدره 52.2 مليار دولار في عام 2008 وحده لتصبح سادس أكبر مستثمر خارجي في العالم.
و كل هذا لم يكن معجزة أو بلا ثمن دفعه الصينيين ..
فمن أجل التنمية بدأت الصين في تطبيق سياسة صارمة لتحديد النسل، والتى تفرض على الازواج فى المناطق الحضرية بانجاب طفل واحد فقط وفى المناطق الريفية بانجاب طفلين فقط، منذ اكثر من 3 عقود. وقد ساعدت فى منع انجاب ما يقدر بـ400 مليون طفل. وهذا يعنى انه اذا لم تطبق الصين هذه السياسة لتجاوز اجمالى عدد سكانها 1.7 مليار نسمة فى 2008. و بهذا المعدل سوف تتجاوز الهند الصين كأكبر دولة فى العالم سكانا بحلول عام 2040، حيث سيصل عدد سكانها الى 1.52 مليار شخص، بينما من المتوقع ان يصل عدد سكان الصين الى 1.45 مليار نسمة.
فلقد شهدت الصين اقل من اربعمائة مليون من الاطفال الذين يولدون منذ تنفيذ سياسة تنظيم النسل بحزم فى سبعينات القرن العشرين. فانخفض معدل المواليد من نسبة 36 بالمائة فى عام 1949 الى 12.14 بالمائة فى عام 2008. كما انخفض معدل نمو السكان الطبيعى الى 5.08 بالمائة ايضا. لذا فشهد مستوى التناسل فى الصين اتجاه الانخفاض السلس بشكل عام، وانتقلت موضة اعادة نمو السكان فى بلادنا الى مرحلة انخفاض النسل، والوفيات، والنمو التناسلى فى عام 2006. ان تحويل نمط السكان فى الصين خفض الضغط المفروض على الموارد والبيئة، كما قدم مساهمات ايجابية فى سكان العالم ونموهم ايضا.
أيضا معدل وفاة المولود والعمر المتوقع للسكان باعتباره اول مؤشر لنمو بنى البشرية، يعكس حالة صحة السكان. فانخفض معدل وفاة المولود فى الصين من 32.2 بالمائة الى 15.3بالمائة، كما ارتفع معدل العمر المتوقع للسكان من 68 عاما فى الفترة لاولى من الاصلاح والانفتتاح الى 73 عاما الان، ليصل الى مستوى الدول المتوسطة المتطورة بهذا الخصوص. يبدو ان جميع المناطق على مستوى المحافظة و95 بالمائة من المناطق على مستوى البلدة فى انحاء البلاد تقريبا انشأت مراكز معلومات حول تنظيم النسل، والاستشارات والخدمات الفنية، وفقا للاحصاء الوارد من معرض الانجازات المحققة فى سكان الصين خلال 60 عاما، فان مشروع // قلة الولادة وسرعة الرخاء// تستفيد منه 280 الف عائلة، وتمت مساعدة 488 الف شخص بفضل تنفيذ نظام المساعدة الخاصة لاسر تنظيم النسل، كما تم توزيع معونة قدرها 550 مليون يوان ايضا.
لكن نجاح التحكم فى نمو السكان لا يعتمد على الحد من عدد السكان فحسب، بل الى رفع نوعية السكان أيضا. فمعدل الامية كان يتخطى 80 بالمائة فى الصين قبل التحرير، ولكن، بعد الاصلاح والانفتاح، تم تعميم التعليم الالزامى، واعمال محو الامية للشباب والكهول على نطاق واسع. ففى عام 2005، تقدمت الصين غيرها فى القيام بالتجربة فى المناطق الريفية فى غرب الصين ووسطها، حيث تم الاعفاء عن رسوم الدراسة والنفقات المدرسية فى مرحلة التعليم الالزامى، وتم تقديم المواد الدرسية الى الاطفال فى سن الدراسة والناشئين فى العائلات الفقيرة، كما تم تقديم تكاليف المعيشة الى الطلاب الداخليين ايضا. ومع تنفيذ سياسة // اعفاءين وتعويض// تدريجيا، وصل معدل التحاق التلاميذ بالمدارس الابتدائية الى اكثر من 99 بالمائة. وارتفع معدل مدة تثقيف السكان الذين يبلغون ما فوق 15 عاما من اعمارهم من 4.5 عام فى اوائل ثمانينات القرن العشرين الى 8.5 عام الان، وذلك اعلى من المستوى العالمى فى هذا الشأن. اما اعمال محو الامية فهى حققت نتائج مثمرة، وفقا لاحدث احصاء وارد من وزارة التعليم، انخفض معدل الامية للشباب والكهول فيما يتراوح بين 15 و50 عاما من اعمارهم الى 3,58 بالمائة.
أوّل ظهور تلك النظرية أبحاثاً منهجية كان بين سنتي 1931 و1933 إذ قامت آنئذ، في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما في نيويورك، «الحركة التكنوقراطيّة » تعرض على الجمهور الأمريكي (وكان يعاني من الأزمة الأمريكية والعالمية الكبرى، أزمة الكساد سنة 1929 وما بعدها) بديلاً من المفهومات الاقتصادية العتيقة التي أدّت إلى الأزمات لأنها لم تعد تناسب ثورة التقنية.
وكان في قلب هذه الحركة، العالم الاقتصادي الأمريكي «ثورنستاين فيلبن Thorstein Veblen»، الذي استلهمت الحركة كتاباته بين الحربين العالميتين لتنشر رسالة التكنوقراطية، بيد أن المحرك الفعلي لهذا المذهب الجديد كان «هاوارد سكوت Howard Scott» وكان ذا شخصية جذابة وأسلوب مقنع، فجمع حوله فريقاً من الباحثين عكفوا على تفنيد ما في الأسس الاقتصادية السائدة من قصور وعجز، كنظرية الندرة، ندرة المنتجات الاقتصادية التي ترتفع أثمانها كلما قلت كميتها وتنخفض كلما كثرت الكمية. وكان فريق سكوت يبشر بقرب سقوط هذا النظام المستند إلى اقتصاد السوق القائم على السعر، وبقرب قيام نظام تكنوقراطي بدلاً منه. على أنه مع ترحيب أكثرية المفكرين بهذه الأفكار الجديدة، وظهور عدة فروع لهذه الحركة، وتنظيمات بنيت على أفكارها التكنوقراطية، ونشاطها المثير في خريف سنة 1932، فإنه لم تمض أشهر قليلة حتى عاجلها الكسوف.
غالباً ما يعزى إلى الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي، كلود هنري دوروفروا Claude Henri de Rouvroy، المعروف بـ«سان سيمون Comte de Saint-Simon» (1760-1825) الذي سبق الحركة الأمريكية بأكثر من قرن كامل، إيجاد مفهوم تكنوقراطية السلطة والمجتمع، ويستنتج ذلك من الوصف الذي يطلقه على الصناعيين في الإنتاج مشاركة منظّمة هرمّية المراتب، يحكمها معيار عالمي، هو معيار الاختصاص الفني، وهو الذي يجب أن يكون الشرط الأول لتولي الحكم، حكم العلماء ورؤساء الصناعة والفنيين. ودَّ سان سيمون لو يقوم مثل هذا الحكم فيضع نهاية للاضطرابات الاجتماعية التي تكاثرت في عصره بل هو يتنبأ بأن حكم التقنية آت لا ريب. على أنّ إنسان الصناعة، في نظر سان سيمون، ليس هو المشتغل عن ذكاء ومعرفة بالصناعة وحسب، بل هو أيضاً الفني والمتعهد، والعامل والمهندس، والتاجر والمزارع، فهو يعني بإنسان الصناعة الإنسان المجد الذي يعكف على الإنتاج وتوفير الخدمات عن معرفة فنية وخبرة وتمكن. وكان هذا المفهوم للمعرفة الفنية التي تُكتسب عن طريق الصناعة مفهوماً جديداً آنئذ، وقد سماه سان سيمون مفهوماً تحريرياً، يحرر الإنسان من تسلط أخيه الإنسان على مقدراته واستغلاله، ويقلص الحكم إلى مجرد الإدارة، لأن المعرفة الفنية معرفة محايدة وهي معرفة نظرية لتفقه الوسائل التي يجب استخدامها لتحقيق غرض معين يقع ضمن الحاجات الاجتماعية، أو يستجيب لدواع حضارية. ومن المستحسن أن تستثمر المعرفة الفنية لتعقيل النشاط الإنساني وتحسين مردوده، لكنها يجب ألا تملي التوجيهات على الأعمال الجماعية أو الفردية ولا تحدد لها أهدافاً معينة، فبذلك تصبح شكلاً جديداً آخر لممارسة السلطة.
لتلافي مثل هذه المحاذير كان «سكوت» ينادي بأن يكون المفهوم الجديد لسلطة «الفني» متدرجاً، فتصبح سلطته أداة للصعود الاجتماعي، ويمكنه آنئذ مزاحمة مفهوم المتعهد الرأسمالي، من داخل المؤسسات التي يلطف من سيطرتها ويعقل ممارساتها ويرشد آليتها الداخلية التي تجنح إلى تبني طرق الإنتاج الرأسمالي لتصير متوافقة مع التطلعات الماركسية لتحويل الهدف من مجرد الربح إلى المردود الاجتماعي الأعم ثمرة ونفعاً.
وأكمل الفيلسوف الاقتصادي «بورنهام» تحليل «سكوت» ومن قبله «فيلبن» فأنضج مفهوم «سلطة الإدارة» وما تعنيه قدرة الإدارة الفنية الصالحة ذات الكفاءة على تحقيقه من انتقال تاريخي من المجتمع الراهن إلى نوع من المجتمع الجديد يقوم على نمط أحدث من هيمنة «التكنوقراطية»، ويجمع بين مصير المجتمعات الرأسمالية المتطورة في الغرب والنمط الجديد للشمولية البيروقراطية، أو للقومية الجرمانية، بمعنى أن الحكم التكنوقراطي قادر على جمع مزايا الرأسمالية، وأهداف الاشتراكية، والاشتراكية الوطنية في بوتقة جديدة، ذلك أن نظام الملكية الرأسمالية يشهد تطورات تترافق مع بروز المجتمع التعاوني، ومع بروز الشركات الكبرى، ومع التنامي المكثف لتدخل الدولة، والتخطيط الإداري والاقتصادي، وكل ذلك لا يجد انعكاساً له في نظام التمثيل الديمقراطي الراهن. ويستخلص «بورنهام» من هذه الظواهر أن المجتمعات الغربية تتمسك بحقوق رسمية ظاهرة فقط كحق الملكية وحق الاشتراك في تأسيس السلطة، في حين يشير الواقع إلى أن السيطرة الفعلية على مسيرة أي مشروع كبير من المشروعات الحديثة، والتوجيهات المنبثقة عن الشمولية الوطنية، هي في مرحلة الانتقال إلى أيدي التكنوقراطيين. ومع ذلك لا يتنكر «بورنهام» للمفهوم الكلاسيكي للسلطة من حيث هي ممارسة السيطرة من قبل طبقة اجتماعية جديدة تعمل باسم النجاعة الفنية والكفاية المهنية.
ينحو «غالبريث» المؤلف الاقتصادي الأمريكي الذائع الصيت منحى آخر في بحث «التكنوقراطية» فيتحدث عن التطور البنيوي للسلطة الذي يترافق مع ظهور منطق تكنوقراطي لعملية اتخاذ القرار. ويستشهد على ذلك بنماذج من الشركات الأمريكية الكبرى، فيبيّن كيف تتوزع السلطة وتتناثر في شبكة من سيل المعلومات، يحتكر كل فريق في الواقع جزءاً منها فيجعل بذلك من الضروري المحتم اشتراكه في عملية اتخاذ القرار. فهذه البنى التقنية والصلات الوثيقة التي تنسجها مع الدولة لا يمكن بعد اليوم أن تُفهم ضمن المعطيات التقليدية للاقتصاد السياسي، فهي تبرز أنماطاً جديدة من التضافر والولاء والحوافز والتسلسل في المراتب، لا تعرب عنها مفهومات الطبقات الاجتماعية التقليدية أو اقتصاديات السوق أو بيروقراطية السلطة في تكوينها غير الحركي.
ويمضي العالم الأمريكي «بيل» Bell في هذا الضرب من التحليل للمنطق التكنوقراطي، فيدمجه في الفرضية العامة القائلة: إنّ المجتمع هو في مرحلة انتقال تاريخية إلى المجتمع ما بعد الصناعي، ويظهر هذا الانتقال جلياً في خمسة مستويات:
والواقع أنه كلما كانت القطاعات المختلفة للعمل الاجتماعي مشبعة بالنمو التقني المستمر، أدى الحرص على زيادة الإنتاج إلى حلول السلطة التكنوقراطية محل السلطة السياسية المؤسساتية تدريجياً، ومن هذا المنظور فإن بروز فلسفة تكنوقراطية الإنتاج وتكرار الإنتاج عادة تترسخ اجتماعياً قد يعني اعتياداً آلياً يؤخر عن اللحاق بالمستجد والمستحدث، فنكون أمام ضرورات تحديث دائم للمعرفة ومواكبة مستمرة للتقدم التقني وتكييف لمراحل الوعي الاجتماعي مع سرعة الزمن وتواتر التطورات في المعارف والأداء. لهذا تكاثرت برامج البحث لاستنباط كل جديد، ومتابعة معايير العمليات الناجحة، وغدا مركز العلم راجحاً في البحث. ولكن لم تعد علوم الطبيعة هي التي تشغل مكان الصدارة الفعلية بل صارالدور الأكبر في هذا الجو العملياتي للعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تتحول إلى تقنيات إدارة أعمال وإنتاج وعلاقات اجتماعية وفق ما تمليه نماذج المعلوماتية.
وبعد فإن التكنوقراطيين، ما هم إلا فنيون يملكون من الكفاية في اختصاصاتهم ما لا يملكه غيرهم وقد يعزيهم ذلك بإمكان فرض سلطتهم على أرباب السياسة التقليديين وعلى أصحاب الشركات الخاصة. ومع تقدير أنهم لا يحكمون إلا بما تمليه عليهم معلوماتهم الفنية المحايدة، فإن الخشية أن تصير نظرتهم إلى المجتمع نظرة آلية لا روح فيها، وتصطبغ حلولهم لمشكلات هذا المجتمع حلولاً تنظيمية بحتة، لا تتصل بالمشكلات ذات الطبيعية السياسية وهي في صميم حياة المجتمع.
ولعل أبا التكنوقراطية، سان سيمون، كان يرمز إلى هذه الخدمة العامة، لصالح المجتمع، عندما جعل الفن والتقنية في خدمة المجتمع، وعنون كتابه الكثيف على النحو الآتي: «الصناعة أو المناقشات السياسية والأخلاقية والفلسفية، لصالح كل الناس العاكفين على الأعمال النافعة المستقلة»، ونشره سنة 1817، كما نشر كتابه «دستور الصناعيين» سنة 1823، وكان من أثر مدرسته أن تولى أتباع له الوظائف الكبرى في المصارف وشركات السكك الحديدية والبحرية، فحبذوا التبادل الحرّ ونظموا شؤون الاعتمادات المصرفية، وشجعوا التنمية في المشروعات الكبرى، وكان هذا بدء الترجمة العملية لمذهب التكنوقراطية.
وبقراءة متأنية للملف الاقتصادي الصيني، تطالعنا أرقام قياسية، فقد وصل الناتج المحلى الإجمالي الصيني إلى 66ر24 تريليون يوان (43ر3 تريليون دولار أمريكي) في عام 2007 بزيادة نسبتها 4ر11 بالمائة على أساس سنوي، محتلا المرتبة الثالثة عالميا، وارتفعت استثمارات الأصول الثابتة الصينية في العام ذاته بنسبة 8ر24 بالمائة على أساس سنوي، وقفز الإنتاج الصناعي الصيني بنسبة 5ر18 بالمائة في العام ذاته بزيادة 9ر1 نقطة مئوية عن العام الأسبق، وبلغ حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة التي تدفقت إلى الصين خلال العام ذاته 7ر74 مليار دولار أمريكي، وسط توقعات بأن تصل قيمة الاستثمارات الصينية في الخارج إلى 20 مليار دولار أمريكي عام 2008، وهو رقم يزيد ثماني مرات عن الرقم سنة 2002 والبالغ 5ر2 مليار دولار. وسجل إجمالي حجم التجارة الخارجية 17ر2 تريليون دولار أمريكي العام الماضي، بعد أن كان 8ر620 مليار دولار في العام 2002، محتلا المرتبة الثالثة عالميا، و بلغ احتياطي العملات الصعبة 5ر1 تريليون دولار أمريكي محتلا المرتبة الأولى عالميا.
فالمصانع الصينية تنتج يوميا حمولة 160 ألف شاحنة ، كما أنها تنتج أكثر من ثلث الأحذية ، التي يستهلكها العالم ، وصدرت أجهزة كمبيوتر بقيمة 20 مليارا عام 2006 ، كما أقامت أكثر من 20 ألف مصنع لألعاب الأطفال ، بكلفة حوالي 80 مليارا ، من الدولارات وأصبحت هي المنتج الأكبر لهذه الصناعة في العالم. وفي شأن البنية التحتية ، والتي كانت سببا رئيسا في حدوث المعجزة ، نجد أن الخطوط السريعة ، لم يتجاوز طولها أواخر السبعينات من القرن الماضي 178 ميلا ، لتصبح في عام 2006 أربعين ألفا ، ومن المقرر أن تتجاوز 50 ألف ميل عام 2010.
وقدر الكتاب ان معدل تدفق الاستثمارات إلى بلاد التنين ، يتجاوز سنويا 70 مليارا ، وأن نموها السنوي تجاوز %13 لعدة سنوات وهو أعلى نمو في العالم ، ولن يقل هذا العام عن 9% رغم الأزمة العالمية ، وأقامت معظم الشركات الأميركية والأوروبية الكبرى فروعا لها في هذه البلاد الشاسعة ، بسبب رخص الأيدي العاملة ، ما ترتب عليه تدريب وتأهيل ملايين العمال الصينيين ، والذي كان سببا في التقدم والتطور ، والفوز في المنافسة مع الدول الأخرى ، فنجد أن شركة فيليبس الهولندية تستخدم أكثر من 85 ألف عامل صيني في فروعها داخل الصين.
إن هذه النهضة الصناعية الملفتة للنظر ، حيث تمتد المصانع خارج المدن وعلى امتداد البصر ، أدت إلى زيادة عدد الطبقة الوسطى حيث تجاوز عددها 200 مليون ، ودخول آلاف الصينيين إلى نادي الأثرياء ، إذ قدر عددهم بأكثر من 220 ألفا ، إلى جانب انتشار ناطحات السحاب ، والتي بلغ عددها في مدينة شنغهاي وحدها 3780 ناطحة ، أي أكثر من مجموع الناطحات في تكساس ودالاس بالولايات المتحدة الأميركية.
سر النهضة الصينية
يرجع النمو السريع في الاقتصاد والصناعة في الصين الشعبية إلى السياسة التي اتبعها دينج شياو بينج حيث بدأ في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في إرسال البعثات إلى البلاد الغربية لتعلم الهندسة والاقتصاد وطرق الإدارة الحديثة بغرض التطوير الاقتصادي في البلاد. واعتمد على هؤلاء الذين يسمون “تكنوقراطيون ” في حل مشاكل الصين الشعبية والتطور بها وتشغيل الصينيين، فكان التكنوقراطيون خير نخبة يعتمد عليها في حل المشاكل في الصناعة والتطوير العملي والانتقال من مجتمع زراعي بحت إلى مجتمع صناعي . وبعد عام 1985 المجلس المركزي – وهو أعلى مجلس نابع من الحزب الشيوعي – يغلب فيه التكنوقراطيون عن غيرهم من النواب. وأصبحت المجموعة الحاكمة معظمها من التكنوقراطيين وساروا على هذا السبيل حتى يومنا هذا. فالمجموعة الحاكمة في الصين هم حاليا من أكثر السياسيين على مستوى العالم النابغون في في العلوم الهندسية والاقتصادية والإدارة، وتعليمهم كان بصفة رئيسية في العالم الغربي، ولا يزالون يرسلون البعثات إلى أفضل كليات الاقتصاد والعلوم والهندسة في بريطانيا ,و الولايات المتحدة الأمريكية لاكتساب المعرفة وإدخالها إلى الصين الشعبية.منذ التحرير الاقتصادي عام 1978 نما اقتصاد جمهورية الصين الشعبية المعتمد على الاستثمار والتصدير، 70 مرة وأصبح أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً في العالم. الصين عضو في منظمة التجارة العالمية، وإبيك وهي ثاني قوة تجارية في العالم خلف الولايات المتحدة حيث تبلغ تجارتها الدولية 2.21$ ترليون (1.20$ ترليون من الصادرات (#1) و1.01$ ترليون من الواردات (#2). يبلغ احتياطي البلاد من النقد الأجنبي 2.4$ ترليون، مما يضعها في المرتبة الأولى عالمياً في هذا المجال. تمتلك جمهورية الصين الشعبية ما يقدر بنحو 1.6 ترليون دولار من سندات الضمان الأمريكية. تعتبر جمهورية الصين الشعبية أكبر ممتلك أجنبي للسندات الأجنبية الخاصة بالدين العام الأمريكي، إذ تستحوذ على 801.5$ مليار من سندات الخزينة. تصنف البلاد ثالثة من حيث حجم الاستثمار الأجنبي المباشر فيها، حيث جذبت 92.4$ مليار دولار في عام 2008 وحده، كما أنها تستثمر بصورة متزايدة في الخارج بمبلغ إجمالي قدره 52.2 مليار دولار في عام 2008 وحده لتصبح سادس أكبر مستثمر خارجي في العالم.
و كل هذا لم يكن معجزة أو بلا ثمن دفعه الصينيين ..
فمن أجل التنمية بدأت الصين في تطبيق سياسة صارمة لتحديد النسل، والتى تفرض على الازواج فى المناطق الحضرية بانجاب طفل واحد فقط وفى المناطق الريفية بانجاب طفلين فقط، منذ اكثر من 3 عقود. وقد ساعدت فى منع انجاب ما يقدر بـ400 مليون طفل. وهذا يعنى انه اذا لم تطبق الصين هذه السياسة لتجاوز اجمالى عدد سكانها 1.7 مليار نسمة فى 2008. و بهذا المعدل سوف تتجاوز الهند الصين كأكبر دولة فى العالم سكانا بحلول عام 2040، حيث سيصل عدد سكانها الى 1.52 مليار شخص، بينما من المتوقع ان يصل عدد سكان الصين الى 1.45 مليار نسمة.
فلقد شهدت الصين اقل من اربعمائة مليون من الاطفال الذين يولدون منذ تنفيذ سياسة تنظيم النسل بحزم فى سبعينات القرن العشرين. فانخفض معدل المواليد من نسبة 36 بالمائة فى عام 1949 الى 12.14 بالمائة فى عام 2008. كما انخفض معدل نمو السكان الطبيعى الى 5.08 بالمائة ايضا. لذا فشهد مستوى التناسل فى الصين اتجاه الانخفاض السلس بشكل عام، وانتقلت موضة اعادة نمو السكان فى بلادنا الى مرحلة انخفاض النسل، والوفيات، والنمو التناسلى فى عام 2006. ان تحويل نمط السكان فى الصين خفض الضغط المفروض على الموارد والبيئة، كما قدم مساهمات ايجابية فى سكان العالم ونموهم ايضا.
أيضا معدل وفاة المولود والعمر المتوقع للسكان باعتباره اول مؤشر لنمو بنى البشرية، يعكس حالة صحة السكان. فانخفض معدل وفاة المولود فى الصين من 32.2 بالمائة الى 15.3بالمائة، كما ارتفع معدل العمر المتوقع للسكان من 68 عاما فى الفترة لاولى من الاصلاح والانفتتاح الى 73 عاما الان، ليصل الى مستوى الدول المتوسطة المتطورة بهذا الخصوص. يبدو ان جميع المناطق على مستوى المحافظة و95 بالمائة من المناطق على مستوى البلدة فى انحاء البلاد تقريبا انشأت مراكز معلومات حول تنظيم النسل، والاستشارات والخدمات الفنية، وفقا للاحصاء الوارد من معرض الانجازات المحققة فى سكان الصين خلال 60 عاما، فان مشروع // قلة الولادة وسرعة الرخاء// تستفيد منه 280 الف عائلة، وتمت مساعدة 488 الف شخص بفضل تنفيذ نظام المساعدة الخاصة لاسر تنظيم النسل، كما تم توزيع معونة قدرها 550 مليون يوان ايضا.
لكن نجاح التحكم فى نمو السكان لا يعتمد على الحد من عدد السكان فحسب، بل الى رفع نوعية السكان أيضا. فمعدل الامية كان يتخطى 80 بالمائة فى الصين قبل التحرير، ولكن، بعد الاصلاح والانفتاح، تم تعميم التعليم الالزامى، واعمال محو الامية للشباب والكهول على نطاق واسع. ففى عام 2005، تقدمت الصين غيرها فى القيام بالتجربة فى المناطق الريفية فى غرب الصين ووسطها، حيث تم الاعفاء عن رسوم الدراسة والنفقات المدرسية فى مرحلة التعليم الالزامى، وتم تقديم المواد الدرسية الى الاطفال فى سن الدراسة والناشئين فى العائلات الفقيرة، كما تم تقديم تكاليف المعيشة الى الطلاب الداخليين ايضا. ومع تنفيذ سياسة // اعفاءين وتعويض// تدريجيا، وصل معدل التحاق التلاميذ بالمدارس الابتدائية الى اكثر من 99 بالمائة. وارتفع معدل مدة تثقيف السكان الذين يبلغون ما فوق 15 عاما من اعمارهم من 4.5 عام فى اوائل ثمانينات القرن العشرين الى 8.5 عام الان، وذلك اعلى من المستوى العالمى فى هذا الشأن. اما اعمال محو الامية فهى حققت نتائج مثمرة، وفقا لاحدث احصاء وارد من وزارة التعليم، انخفض معدل الامية للشباب والكهول فيما يتراوح بين 15 و50 عاما من اعمارهم الى 3,58 بالمائة.
وبالطبع كل هذة الإنجازات ما كانت لتحدث لولا ان الصين قد طبقت نظاما يجتذب الكفاءات و يعتمد عليهم فقط في إدارة الدولة و توجيه المجتمع .. بدلا من محاولة الخضوع للمعايير السياسية الغربية في الديموقراطية و حقوق الإنسان كما فعلت روسيا. نعم, كل هذا النجاح كان بفضل التكنوقراطية و الإدارة التكنوقراطية ..
لكن ما هي التكنوقراطية ؟
يتألّف مصطلح «التكنوقراطية » اليونانيُّ الأصل من الجذر techno ومعناه الفنّ، أو فنُّ الصنع، ومن الكلمة الملحقة cracyمن أصل الفعل اليوناني kratein ومعناه الحكم أو ممارسة الحكم، فيكون مجمل معنى المصطلح حكم الفنّيين، بمعنى الأخصّائيين في الهندسة والتخطيط والاقتصاد وما إلى ذلك، تبايناً مع رجال السياسية. وعلى وجه الخصوص، يشير المصطلح إلى مذهب معين من المذاهب الاقتصادية ـ الاجتماعية يقول إنَّ النظام الصالح للعصر الذي انتشرت فيه التقنية، هو نظام الحكم التكنوقراطي الذي يجب أن يقوم عليه فنّيون من علماء ومهندسين، واقتصاديين وصناعيين، وما شابه ذلك من ذوي المعرفة والخبرة والاختصاص.أوّل ظهور تلك النظرية أبحاثاً منهجية كان بين سنتي 1931 و1933 إذ قامت آنئذ، في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما في نيويورك، «الحركة التكنوقراطيّة » تعرض على الجمهور الأمريكي (وكان يعاني من الأزمة الأمريكية والعالمية الكبرى، أزمة الكساد سنة 1929 وما بعدها) بديلاً من المفهومات الاقتصادية العتيقة التي أدّت إلى الأزمات لأنها لم تعد تناسب ثورة التقنية.
وكان في قلب هذه الحركة، العالم الاقتصادي الأمريكي «ثورنستاين فيلبن Thorstein Veblen»، الذي استلهمت الحركة كتاباته بين الحربين العالميتين لتنشر رسالة التكنوقراطية، بيد أن المحرك الفعلي لهذا المذهب الجديد كان «هاوارد سكوت Howard Scott» وكان ذا شخصية جذابة وأسلوب مقنع، فجمع حوله فريقاً من الباحثين عكفوا على تفنيد ما في الأسس الاقتصادية السائدة من قصور وعجز، كنظرية الندرة، ندرة المنتجات الاقتصادية التي ترتفع أثمانها كلما قلت كميتها وتنخفض كلما كثرت الكمية. وكان فريق سكوت يبشر بقرب سقوط هذا النظام المستند إلى اقتصاد السوق القائم على السعر، وبقرب قيام نظام تكنوقراطي بدلاً منه. على أنه مع ترحيب أكثرية المفكرين بهذه الأفكار الجديدة، وظهور عدة فروع لهذه الحركة، وتنظيمات بنيت على أفكارها التكنوقراطية، ونشاطها المثير في خريف سنة 1932، فإنه لم تمض أشهر قليلة حتى عاجلها الكسوف.
غالباً ما يعزى إلى الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي، كلود هنري دوروفروا Claude Henri de Rouvroy، المعروف بـ«سان سيمون Comte de Saint-Simon» (1760-1825) الذي سبق الحركة الأمريكية بأكثر من قرن كامل، إيجاد مفهوم تكنوقراطية السلطة والمجتمع، ويستنتج ذلك من الوصف الذي يطلقه على الصناعيين في الإنتاج مشاركة منظّمة هرمّية المراتب، يحكمها معيار عالمي، هو معيار الاختصاص الفني، وهو الذي يجب أن يكون الشرط الأول لتولي الحكم، حكم العلماء ورؤساء الصناعة والفنيين. ودَّ سان سيمون لو يقوم مثل هذا الحكم فيضع نهاية للاضطرابات الاجتماعية التي تكاثرت في عصره بل هو يتنبأ بأن حكم التقنية آت لا ريب. على أنّ إنسان الصناعة، في نظر سان سيمون، ليس هو المشتغل عن ذكاء ومعرفة بالصناعة وحسب، بل هو أيضاً الفني والمتعهد، والعامل والمهندس، والتاجر والمزارع، فهو يعني بإنسان الصناعة الإنسان المجد الذي يعكف على الإنتاج وتوفير الخدمات عن معرفة فنية وخبرة وتمكن. وكان هذا المفهوم للمعرفة الفنية التي تُكتسب عن طريق الصناعة مفهوماً جديداً آنئذ، وقد سماه سان سيمون مفهوماً تحريرياً، يحرر الإنسان من تسلط أخيه الإنسان على مقدراته واستغلاله، ويقلص الحكم إلى مجرد الإدارة، لأن المعرفة الفنية معرفة محايدة وهي معرفة نظرية لتفقه الوسائل التي يجب استخدامها لتحقيق غرض معين يقع ضمن الحاجات الاجتماعية، أو يستجيب لدواع حضارية. ومن المستحسن أن تستثمر المعرفة الفنية لتعقيل النشاط الإنساني وتحسين مردوده، لكنها يجب ألا تملي التوجيهات على الأعمال الجماعية أو الفردية ولا تحدد لها أهدافاً معينة، فبذلك تصبح شكلاً جديداً آخر لممارسة السلطة.
لتلافي مثل هذه المحاذير كان «سكوت» ينادي بأن يكون المفهوم الجديد لسلطة «الفني» متدرجاً، فتصبح سلطته أداة للصعود الاجتماعي، ويمكنه آنئذ مزاحمة مفهوم المتعهد الرأسمالي، من داخل المؤسسات التي يلطف من سيطرتها ويعقل ممارساتها ويرشد آليتها الداخلية التي تجنح إلى تبني طرق الإنتاج الرأسمالي لتصير متوافقة مع التطلعات الماركسية لتحويل الهدف من مجرد الربح إلى المردود الاجتماعي الأعم ثمرة ونفعاً.
وأكمل الفيلسوف الاقتصادي «بورنهام» تحليل «سكوت» ومن قبله «فيلبن» فأنضج مفهوم «سلطة الإدارة» وما تعنيه قدرة الإدارة الفنية الصالحة ذات الكفاءة على تحقيقه من انتقال تاريخي من المجتمع الراهن إلى نوع من المجتمع الجديد يقوم على نمط أحدث من هيمنة «التكنوقراطية»، ويجمع بين مصير المجتمعات الرأسمالية المتطورة في الغرب والنمط الجديد للشمولية البيروقراطية، أو للقومية الجرمانية، بمعنى أن الحكم التكنوقراطي قادر على جمع مزايا الرأسمالية، وأهداف الاشتراكية، والاشتراكية الوطنية في بوتقة جديدة، ذلك أن نظام الملكية الرأسمالية يشهد تطورات تترافق مع بروز المجتمع التعاوني، ومع بروز الشركات الكبرى، ومع التنامي المكثف لتدخل الدولة، والتخطيط الإداري والاقتصادي، وكل ذلك لا يجد انعكاساً له في نظام التمثيل الديمقراطي الراهن. ويستخلص «بورنهام» من هذه الظواهر أن المجتمعات الغربية تتمسك بحقوق رسمية ظاهرة فقط كحق الملكية وحق الاشتراك في تأسيس السلطة، في حين يشير الواقع إلى أن السيطرة الفعلية على مسيرة أي مشروع كبير من المشروعات الحديثة، والتوجيهات المنبثقة عن الشمولية الوطنية، هي في مرحلة الانتقال إلى أيدي التكنوقراطيين. ومع ذلك لا يتنكر «بورنهام» للمفهوم الكلاسيكي للسلطة من حيث هي ممارسة السيطرة من قبل طبقة اجتماعية جديدة تعمل باسم النجاعة الفنية والكفاية المهنية.
ينحو «غالبريث» المؤلف الاقتصادي الأمريكي الذائع الصيت منحى آخر في بحث «التكنوقراطية» فيتحدث عن التطور البنيوي للسلطة الذي يترافق مع ظهور منطق تكنوقراطي لعملية اتخاذ القرار. ويستشهد على ذلك بنماذج من الشركات الأمريكية الكبرى، فيبيّن كيف تتوزع السلطة وتتناثر في شبكة من سيل المعلومات، يحتكر كل فريق في الواقع جزءاً منها فيجعل بذلك من الضروري المحتم اشتراكه في عملية اتخاذ القرار. فهذه البنى التقنية والصلات الوثيقة التي تنسجها مع الدولة لا يمكن بعد اليوم أن تُفهم ضمن المعطيات التقليدية للاقتصاد السياسي، فهي تبرز أنماطاً جديدة من التضافر والولاء والحوافز والتسلسل في المراتب، لا تعرب عنها مفهومات الطبقات الاجتماعية التقليدية أو اقتصاديات السوق أو بيروقراطية السلطة في تكوينها غير الحركي.
ويمضي العالم الأمريكي «بيل» Bell في هذا الضرب من التحليل للمنطق التكنوقراطي، فيدمجه في الفرضية العامة القائلة: إنّ المجتمع هو في مرحلة انتقال تاريخية إلى المجتمع ما بعد الصناعي، ويظهر هذا الانتقال جلياً في خمسة مستويات:
- انتقال من اقتصاد صناعي، منتج للبضائع، إلى اقتصاد خدمات.
- تقسيم جديد للعمل يجعل من طبقة المهنيين والتقنيين محور حركة التنمية.
- ممارسة جديدة للمعرفة النظرية تصبح، للمرة الأولى، سلطة مباشرة لتطوير الواقع الاجتماعي.
- تطوير التخطيط على أساس التنبؤ لكل أقسام التنظيم الاقتصادي على اختلافها، ولكل مستويات الإدارة، فتصبح العملية قائمة ذاتياً تحمل اسم: تخطيط التنمية التقنية.
- ظهور «تقنية ذهنية» لاتخاذ القرار تحل محل «أحكام الحدس» وتستند إلى تقاليد ثقافية أو إلى تطبيق لمبادئ أخلاقية أو قانونية عالمية.
والواقع أنه كلما كانت القطاعات المختلفة للعمل الاجتماعي مشبعة بالنمو التقني المستمر، أدى الحرص على زيادة الإنتاج إلى حلول السلطة التكنوقراطية محل السلطة السياسية المؤسساتية تدريجياً، ومن هذا المنظور فإن بروز فلسفة تكنوقراطية الإنتاج وتكرار الإنتاج عادة تترسخ اجتماعياً قد يعني اعتياداً آلياً يؤخر عن اللحاق بالمستجد والمستحدث، فنكون أمام ضرورات تحديث دائم للمعرفة ومواكبة مستمرة للتقدم التقني وتكييف لمراحل الوعي الاجتماعي مع سرعة الزمن وتواتر التطورات في المعارف والأداء. لهذا تكاثرت برامج البحث لاستنباط كل جديد، ومتابعة معايير العمليات الناجحة، وغدا مركز العلم راجحاً في البحث. ولكن لم تعد علوم الطبيعة هي التي تشغل مكان الصدارة الفعلية بل صارالدور الأكبر في هذا الجو العملياتي للعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تتحول إلى تقنيات إدارة أعمال وإنتاج وعلاقات اجتماعية وفق ما تمليه نماذج المعلوماتية.
وبعد فإن التكنوقراطيين، ما هم إلا فنيون يملكون من الكفاية في اختصاصاتهم ما لا يملكه غيرهم وقد يعزيهم ذلك بإمكان فرض سلطتهم على أرباب السياسة التقليديين وعلى أصحاب الشركات الخاصة. ومع تقدير أنهم لا يحكمون إلا بما تمليه عليهم معلوماتهم الفنية المحايدة، فإن الخشية أن تصير نظرتهم إلى المجتمع نظرة آلية لا روح فيها، وتصطبغ حلولهم لمشكلات هذا المجتمع حلولاً تنظيمية بحتة، لا تتصل بالمشكلات ذات الطبيعية السياسية وهي في صميم حياة المجتمع.
ولعل أبا التكنوقراطية، سان سيمون، كان يرمز إلى هذه الخدمة العامة، لصالح المجتمع، عندما جعل الفن والتقنية في خدمة المجتمع، وعنون كتابه الكثيف على النحو الآتي: «الصناعة أو المناقشات السياسية والأخلاقية والفلسفية، لصالح كل الناس العاكفين على الأعمال النافعة المستقلة»، ونشره سنة 1817، كما نشر كتابه «دستور الصناعيين» سنة 1823، وكان من أثر مدرسته أن تولى أتباع له الوظائف الكبرى في المصارف وشركات السكك الحديدية والبحرية، فحبذوا التبادل الحرّ ونظموا شؤون الاعتمادات المصرفية، وشجعوا التنمية في المشروعات الكبرى، وكان هذا بدء الترجمة العملية لمذهب التكنوقراطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق