طالما ان الإنسان قد تطور من القرد أو من سلف مشترك مع القردة ..
فلماذا لم تتطور بقية القرود ؟
طبعا هذا السؤال يسأله الأقل علما و تعليما بشكل إعتيادي حين يتعرفون على نظرية التطور أو يرفضونها, و هو السؤال الذي ربما لا تتم الإجابة عليه بشكل يوضح آلية عمل التطور أو ميكانيزم الإنتخاب الطبيعي الذي يدفع عجلة التطور إلي الأمام. و الإجابة على هذا السؤال يمكن شرحها ببساطة كالآتي :فلماذا لم تتطور بقية القرود ؟
أولا : التطور لا يعني التحسن مبدأيا بل معناه التطفر العشوائي للكائنات الحية من خلال آلية الإنتخاب الطبيعي. و هذا يعني أن الطفرات التي تنتخبها الطبيعة للإستمرار هي الطفرات الملائمة لبيئتها و ليس الطفرات الجيدة بمقاييس عالمية .. و هذا يحدث من خلال آليتان :
1- التكاثر الجنسي و اللاجنسي
و التكاثر هنا لا ينتج كائنات طبق الأصل من الكائنات الأولى, بل ينتج نسخ غير متطابقة مع الآباء و الأمهات .. تشابه كبير ؟ نعم طبعا, بحكم ان نصف جينات الأب و نصف جينات الأم هي التي يتم تمريرها .. و هم لن يتزاوجوا ما لم يكونوا من نفس الجنس بطبيعة الحال. لكن الأبناء و البنات ليسوا نسخا متطابقة من آباءهم و أمهم, هذا أكيد. و بالتالي فالتكاثر الجنسي أو اللاجنسي سينتج نسخا متشابهة بالإضافة لإنحراف في الصفات عن الأصل و هذا الإنحراف يسمى الطفرات الطبيعية. و بالطبع هذة الطفرات العشوائية ليست كلها جيدة, فهذة الطفرات قد تجعل الأبناء و البنات : أقوى/أضعف أو أذكى/أغبى أو أسرع/أبطأ أو أنشط/أكسل أو أطول/أقصر أو أضخم/أصغر .. الخ. و كل أخ أو أخت منا يعرف جيدا الفروق الطبيعية او الطفرات التي ميزته عن بقية إخوته.
2- البقاء لمن هو أقدر على الإستمرار في بيئته
هناك طفرات و هناك طفرات, فأي طفرات إذن هي التي ستستمر ؟ و الإجابة أن الطبيعة هي التي تختار ذلك عن طريق تغير ظروفها العشوائي. يعني مثلا : بيئة مناخها بارد ستختار الأكثر قدرة على تحمل البرد لكي ينمو و يكبر و يكون أقوى و أكثر تلاؤما مع بيئته و بالتالي أقدر على إختيار شريك حياته و تمرير اغلب جيناته عن طريق التكاثر .. فالقدرة على تحمل الجو البارد هنا ستكون طفرة داعمة للكائن الحي بشكل يجعله أقدر على التكيف. أما لو تحمل المناخ بشكل دائم إلي مناخ حار صارت هذة الطفرة طفرة ضارة لمن يمتلكها في مقابل طفرة تحمل الحرارة العالية .. و بالتالي ستجعله أقل تكيفا و أقل قدرة على التكاثر و تمرير جيناته إلي جيل قادم.
إذن ما الذي يجعل كائنات حية تظل بدائية و محتفظة بطفراتها الطبيعية القليلة على مدى ملايين السنين منذ نشاة الحياة على الأرض ؟ فالقرد البشري مثلا هو خلية حية ظلت تنسخ نفسها بشكل مستمر و متواصل لكي لا تموت منذ حوالي 3.5 مليار سنة, و كلما نسخت نفسها تتغير لكي تلائم بيئتها فلا تموت. ابتداءا من كائن بسيط متعدد الخلايا يعيش في الماء و لديه فم بدائي .. و مرورا بسمكة فكائن برمائي فكائن ثديي يشبه الفأر و حتى الحالة الحالية الآن كقرد. فالذي يستدعي مراكمة طفرات طبيعية في الأجناس الحية و زيادتها تعقيدا هو تغير الحالة البيئية نفسها من حرارة/برودة و جفاف/رطوبة و منافسة مع كائنات حية أخرى و غيره كثير .. عبر ملايين السنين و ملايين الأجيال لكي تراكم طفرات على طفرات.
و في حالة الإنسان و بقية أجناس القردة العليا مثلا, يمكن تصور الحالة كالتالي :
غابة يعيش بها كل جنس القرود قبل ان تتفرع او تتغير, و هذة الغابة الكبيرة في أفريقيا يتعرض جزء منها للتصحر بفعل التغير المناخي مما يقسم القرود الموجودة إلي ثلاثة أقسام :
- قسم يعيش في الغابة التي لم تتصحر .. و هذا سيظل كما هو.
- قسم يعيش بالقرب من الغابة التي لم تتصحر .. و هذا سيهاجر إلي الغابة و يظل على حاله.
- قسم يعيش في الجزء الذي تعرض للتصحر .. و هذا سيتعرض لإنتخاب طبيعي من البيئة التي تغيرت فلم تعد مطيرة او بها أشجار كثيرة : بحيث من يستطيع التكيف مع هذا الجفاف و الأرض المفتوحة هو من سيستمر اما الباقي سيموت و ينقرض.
النظرية بهذة الطريقة تبدو فكرة معقولة و منطقية و متناسقة مع نفسها و مع الواقع, لكنها لن تزيد عن كونها نظرية لو لم يكن هناك أدلة على ذلك. و من حسن الحظ ان الطبيعة لم تعدم الأدلة بكافة الأشكال و خصوصا : الحفريات المكتشفة للكائنات المنقرضة من ناحية و التحليل المعملي للصفات الوراثية من خلال خرائط الجينوم المنتهية. فنسبة التطابق بين القرد البشري و قرد البونوبو و قرد الشمبانزي قياسا على انفسنا طبعا هو 100 : 99 : 98 .. و هي النسب التي تعني ان هؤلاء هم أقرب أقرباءنا الأحياء. كل ما سبق هي مفاهيم معروفة و شائعة و متاحة من كل مصادرها العلمية و لا تنتظر إلا الإنسان المحب للعلم و المعرفة لكي ياتي و يقطف هذة المعلومات الجاهزة. لكن هناك إستنتاجات ربما يخشى العلماء من مواجهة عامة الناس من الأقل علما و تعليما بها خوفا من ردة فعلهم.
التدرج الطبيعي للطفرات الحية
بالطبع يمكن تقسيم الكائنات الحية درجات و مراتب فوق بعضها بحسب بساطتها/تعقيدها أو بشكل مبسط بحسب عدد الطفرات الطبيعية الشغالة التي راكمتها عبر ملايين السنين من التطور. و بدون حتى تصنيف تطوري للكائنات الحية كالتصنيف الذي يقوم به العلماء من خلال علم الـ Taxonomy يمكن ملاحظة أن هناك كائنات حية حادة البصر جدا مثل النسر و هناك كائنات حية عمياء تماما مثل الخفاش .. و بينهما درجات. هناك كائنات حية سريعة جدا مثل الفهد و كائنات حية لا تتحرك أصلا مثل النباتات. كائنات حية ضخمة جدا مثل الحوت الأزرق و كائنات حية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. كائنات حية ذكية جدا مثل القرد البشري و كائنات حية بالكاد لديها ما يقوم بوظيفة الدماغ فينظم عمليات التنفس و الهضم. فقياسا على أي طفرة تريد أن تقيس عليها ستجد الكائنات الحية درجات فوق درجات و مراتب فوق مراتب, ابتداءا من الحجم و القوة و ليس إنتهاءا من حدة البصر و الذكاء.و في الجنس البشري أيضا هناك قرود أذكى من قرود و قرود أضخم من قرود و قرود أجمل من قرود و قرود أقوى من قرود .. الخ. و الإنتخاب الطبيعي آلة تعمل بلا توقف, فالبقاء مستمر لمن هو أكثر قدرة على التكيف مع بيئته و من ثم التكاثر و تمرير جيناته إلي الجيل التالي. و بحسب النظام الإجتماعي للسوق الحر فإن الطفرات التي يتم مكافأتها ماليا هي طفرات مثل : الجمال (نجوم السنيما) و القوة و اللياقة (نجوم الرياضة) و في الاغلب خاضع لعشوائية و فوضى السوق الحر الذي لا يحتكم إلي معيار محدد. لكن في جميع الأحوال الأكثر ذكاءا هو مضطهد و محاصر و أقل قدرة على إيجاد شريك جنسي آخر لديه نفسه طفرته الطبيعية بحيث يستطيع تمرير هذة الطفرة إلي جيل قادم. على العكس نجد أن الأكثر غباءا و جهلا و الأقل تحملا للمسئولية هو الأكثر إنجابا للأطفال .. و هو ما يعني إنحطاط الجنس البشري كإنسانية عاقلة بعد عشر أجيال مثلا من الآن.
من المهم أن نعترف بإنعدام العدل و إنعدام المساواة بين الكائنات الحية عموما و بين الجنس البشري خصوصا (كما هو واضح و معروف). فهناك كائنات حية إمتلكت العديد من المميزات و القدرات و كائنات حية لا تملك إلا ما يتيح لها العيش بالكاد و في أعداد صغير .. و ربما هي على وشك الإنقراض أيضا. يعني نحن قد نجد السلحفاة مثلا: بطيئة و غبية و لا تطير ولا تملك نظرا ثاقبا .. لا تملك فقط إلا صدفتها المنيعة التي تحميها, بينما هناك كائن مثل النسر يستطيع الطيران بسرعات عالية و لديه نظر ثاقب و قوة و بأس. فلو أردنا تصنيف و ترتيب الكائنات الحية بحسب القدرات و الإمكانيات الطبيعية و طول العمر و مدى نجاح النوع في التكيف و الإنتشار .. الخ, سيكون هناك كائنات متفوقة جدا و كائنات متأخرة جدا و على وشك الإنقراض. و حتى لو سمحنا للتصنيف بإستيعاب الزوائد و الإمتدادات (الأدوات و الآلات) فلن يكون الكائن البشري على رأس القائمة أيضا لأنه بكل أدواته و إمكانياته الصناعية لا يعمر حاليا أزيد من 120 عاما و لا تتجاوز أعداده بضعة مليارات كلها على الأرض فقط و ليست في الماء او في الجو مثل البكتيريا و الحشرات.
و التفاوت و الظلم الموجود بين الكائنات الحية ليس محصورا بطبيعة الحال بين الأجناس و الأنواع فقط, بل هو موجود بين أفراد كل نوع حي .. و هو ما يمكن معرفته بفهم نظرية التطور أو حتى بالملاحظة العادية البدائية. يعني مثلا: ليس كل الأحصنة من النوع الواحد و الجنس الواحد لديهم نفس السرعة في الجري, و ليس كل الأفيال من نفس النوع و نفس الجنس لديهم نفس ضخامة الجسم. و من الواضح أيضا أنه ليس كل البشر من نفس النوع و نفس الجنس لديهم نفس القدر من الذكاء أو الموهبة .. و هل البشر الإخوة الأشقاء من نفس الأب و نفس الأم لديهم نفس القدر من الذكاء أو الموهبة ؟! بالطبع لا ..
و هذا يقودنا تلقائيا إلي الوسيلة الوحيدة لتعريف معنى “الإنسانية” بشكل موضوعي علمي له معنى. فتعريف الإنسان بالإعتماد على الأصل التطوري مستحيل تماما : لأن هذا يتطلب تحديد تعسفي للمواصفات المطلوبة (ما المانع من إعتبار البونوبو إنسانا إذا كانت نسبة الإختلاف بينه و بين أي بشري أقل من 1% ؟!) بالإضافة الي أن هذا يتطلب تحديد تعسفي للزمان المقصود (هل يمكن إعتبار آردي او أي فرد من الأسلاف البدائيين للبشر إنسان ؟!) .. و في هذة الحالة من التنوع و الإنتشار و التفاوت و التغير المستمر للجنس البشري (مثل أي كائن حي) في المكان و الزمان يستحيل تحديد الإنسان بدقة و أمانة و بدون تعسف و إنحياز. و مادام تحديد المعنى بناء على المواصفات الذاتية مستحيل, فلماذا لا نقيس الكائنات على موضوع خارج عن هذا الكائن فنعرف إلي أي حد يمكن إعتباره إنسانا او لا. و كما أن إختراع المسطرة أتاح للناس قياس الطول بالسنتميتر و إختراع الميزان اتاح للناس قياس الوزن بالكيلوجرام (أو الرطل) .. فيمكن أيضا إختراع آلة لقياس إنسانية الكائنات.
و بالطبع لا يوجد أفضل من الذكاء (و هو اعز و أغلى ما يملكه الإنسان العاقل) كمعيار مطلق للإنسانية مادمنا نتكلم عن جنس “الإنسان العاقل”, و مادام الإنسان يتميز عن غيره من الكائنات بالعقل إذن فكلما زاد العقل و إنجاز العقل و تحكم العقل زادت الإنسانية, و كلما قل العقل و فشل العقل و فقد السيطرة قلت الإنسانية. و إلا فلنساوي بين البشر و غيرهم من الكائنات الحية الأقل ذكاء, لأنه لو تساوى كل البشر في العقل و الذكاء (و هذا مستحيل بوضوح) فكل الكائنات الحية أيضا متساوية في العقل و الذكاء (نفس الإستحالة).
لكن بأي منطق أو علم لا يمكن بحال إعتبار أن ما يسمى الجنس البشري هو جنس واحد له مواصفات متساوية أو متشابهة. نعم, نحن نشترك جميعا في أصل واحد و ننحدر من سلف مشترك واحد .. لكن كما أن هناك إختلافات بين القرد البشري و بين قرد الشمبانزي دفعت العلماء لتصنيف هذا كجنس و ذاك كجنس مختلف .. فهناك أيضا إختلافات بين أفراد الجنس البشري نفسه, و هي إختلافات قد تكون لها نفس الأهمية عمليا مثل الإختلافات بين البشري و الشمبانزي. و لو كان هناك نموذج معياري للإنسان لعرفنا ان هناك بشرا هم أبعد ما يكونوا عن الإنسانية و من كافة الزوايا .. بل و قد يكون هناك حيوانات مدربة و أليفة هي أكثر إنسانية و ذكاء من كثير من البشر.
قرد و إنسان
هذا يعني ان حتى مقدار الذكاء المحدود الذي يميز الجنس البشري هو لا يميز الجنس البشري كله, فليس كل البشر متساويين في الذكاء : مجرد ان يكون أينشتاين كائن بشري و أن يكون أديسون كائن بشري لا يعني أن مجرد كوني بشري فهذا يعني انني ذكي أو عبقري أو عالم أو مخترع مثل أينشتاين أو أديسون. غالبية البشر يعانون من الغباء و التخلف بدرجات متفاوتة .. أما زيادة معدل الذكاء و الإحتكام للتفكير المنطقي المستقل و القدرة على الإبداع و الإختراع فليست مواهب أصيلة في الجنس البشرية بل إن المجتمع ربما يحتاج لإنتاج مئة فرد مستقل و متعلم بشكل جيد لكي يحصل على خمس علماء و مخترعين مثلا, و النسبة تتهاوى كثيرا بالنسبة للدول المتخلفة.
غالبية البشر على كوكب الأرض هم كائنات حيوانية غريزية مقلدة و ببغائية تقوم بأعمالها بطريقة آلية رتيبة مكررة و لا تمتلك أي قدرة على الإكتشاف أو الإختراع أو الفهم أو الإبداع أكثر من أي سلحفاة أو سمكة. و كما ان هناك كائنات حية تكيفت مع بيئتها فظلت أسماك غبية او ضفادع حمقاء, فهناك أيضا قرود بشرية ستظل كما هي منذ أن بدأ الجنس البشري في الإنفصال عن القردة العليا .. ستظل بدائية و حيوانية في معظم سلوكها و ردود أفعالها مع بعض الذكاء القليل الذي ميز البشر في مراحلهم البدائية.
الميزة في الذكاء البشري أنه أكبر من حيث الكم لا الكيف, و أن الذكاء أكثر إحتمالا في البشر منه في بقية القردة العليا أو الدلافين مثلا .. يعني لو قلنا ان الأذكياء في الجنس البشري هم 5% و هؤلاء يتمتعون بذكاء يقدر بــ 3 (من إمكانية لانهائية لمضاعفة الذكاء) فالأذكياء من قرد البونوبو مثلا هم 1% و يتمتعون بذكاء يقدر بــ 1 .. الفارق لو تم حسابه بصورة موضوعية سنعرف أننا لا نستحق كل هذا التمجيد و النفخ الذي نعطيه لنوعنا و جنسنا, لان الحكاية كلها هي فارق بسيط في الذكاء تمت مراكمة نتائجه عبر حوالي عشرة آلاف عام فقط من عمر الحياة على الأرض و التي تقدر بــ 3.3 ألف مليون سنة.
و بالإضافة لمشكلة الذكاء تأتي مشكلة المعرفة : فعن طريق أكثر مناهج المعرفة فعالية و تأثيرا في حياة الناس و هو العلم التجريبي يجد المرء نفسه أنه حين يتعرف على معلومة واحدة جديدة يكتشف تلقائيا مئات أو آلاف المساحات المجهولة من المعرفة. و بالتالي فالإنسان البدائي الجاهل لو كان يظن أنه يعرف معلومة واحدة أكيدة عن عشر ظواهر يقابلها في حياته, فخلال الوقت الذي يصل فيه بمعرفته إلي معلومة أخرى لا تصبح معرفته تساوي 2/10 بل 2/100 لأنه سيكون قد اصطدم بتسعين ظاهرة أخرى غامضة و مجهولة بالنسبة له, ثم حين يتعرف على نظرية علمية ثورية تأكد من صحتها و ثبتت فعاليتها تجد معارفة لم تعد 5/100 مثلا من كل الظواهر التي يتعامل معها بل لقد أصبحت 5/10000. و بالتالي فإن أفضل مناهج المعرفة و أكثرها كفاءة و فعالية لا تكشف لنا عن الكون أو العالم من حولنا بقدر ما تكشف لنا عن ضآلة معارفنا و قلة وعينا. هذا فضلا عن التعرف المستمر على أخطاء جديدة في معارفنا القديمة و لذلك و شيئا فشيئا نكتشف أن الوعي الإنساني إجمالا قد تم المبالغة في تقديره عبر العصور أو كما قال سقراط منذ مئات السنين أنه أعلم واحد في اليونان لأنه الوحيد الذي يعرف أنه جاهل.
لهذا لا يستطيع عالم عبقري كائنا من كان و مهما بلغ من الذكاء و العلم أن يلم بكل شيء, لو كان عالم فيزياء و كونيات يصعب أن يكون ملما بالعالم البيولوجي و الهندسة و غيره, و لو كان أسطورة في العلوم الكيميائية لن يكون ملما بالعلوم الأخرى أيضا. بل لا يوجد طبيب لديه المام شامل بكل شيء في الطب نفسه أو عالم فيزياء يعرف كل شيء في الفيزياء لأن البشرية قد راكمت من العلوم و المعارف ما لا يستطيع عقل واحد أن يلم به و يستوعبه. و لذلك فكل عالم كلما تعرف على اكتشاف واحد جديد كان مجهولا ورطه في عشر مسائل جديدة غامضة و مجهولة, و كما تتضاعف مساحات المعرفة الإنسانية أكثر تتضاعف معها مساحات الجهل الإنساني أكثر و أكثر.
فضائل العلم
لهذا يتطلب الإرتقاء في العلم فضيلتان أساسيتان هما التواضع و الموضوعية. يعني لا أحد لديه كبرياء متضخم و ذات متورمة و منتفخة حتى تكاد توشك على الإنفجار يقبل الخضوع للمنطق العلمي في التقييم, أو الإحتكام للمفاهيم العلمية و المكتشفات و المكتسبات العلمية بوجه عام. و لا احد يمكنه أن يستوعب أي موضوع علمي بدون أن يترك ذاته قليلا و يتنازل عن تقلب مزاجه و يحاول أن يلم و يستوعب الموضوع العلمي كما هو لا كما يريده او يتمناه. فالعلم هو موضوع منفصل تماما عن الإنسان و له كيان و روح و ذات و عقل مختلف تماما عن الإنسان .. بل أفضل منه كثيرا في الواقع. لذلك فالغرض من العلم ليس تمجيد الإنسان و لا نفاقه أو النفخ فيه و في كبرياؤه المريض, بل على العكس .. الغرض الوحيد للإنسان هو أن ينتج و يستهلك العلم, ان يطلب العلم و يكتشف و يتعلم و يخترع و ينتج علوما جديدة و يزيد العلوم الموجودة عمقا و دقة, و بهذا يحقق تميزه و هويته وسط الكائنات الحية. و لتحقيق هذا يجب على طالب العلم أن يعترف أمام نفسه بعدة إعترافات و بغير أن يعترف بها لن يتعلم أي شيء أبدا :- أعترف أنني جاهل و محتاج للمعرفة, مهما إمتلكت من معلومات و ثقافة.
- أعترف أنني غبي و محتاج للذكاء, مهما أحرزت من درجات في إختبارات الذكاء (IQ).
- أعترف أنني همجي و محتاج للتحضر, مهما إستطعت ان أتحكم في سلوكي و إنفعالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق