يقول بوذا : تخلى عن الغضب, تخلى عن الكِبر .. فحين لا يقيدك شيء تتجاوز الألم.
يتبجح المتدينين عادة بأن الاخلاق لا وجود لها إلا في الدين حصريا, و في الغالب في دين واحد بعينه هو الدين الذي يعتنقونه بطبيعة الحال. فالمسلم غالبا يدعي أن لا معنى لأي ممارسة أخلاقية بدون عصا الله و جزرته على الطريقة الإسلامية, و يقول أن الملحد كافر بالدين و منكر للآلهة لكي يمارس إنحرافاته الجنسية و السلوكية, و يصر أن المسيحيين أيضا منحرفي السلوك بقدر ما هم منحرفي العقيدة .. ناهيك عن بقية الناس في العالم من الأديان الآسيوية و من غير الأديان بوجه عام ! و بنفس المنطق يعجز المسيحي عادة عن فهم السبب الذي يجعل أي إنسان لا يؤمن بمسيحيته يلتزم باي معايير أخلاقية أو ان يكون لديه مبادئ أخلاقية أساسا .. اما الإسلام و بقية الأديان الشيطانية فهي أديان تحرض على الإنحلال و الفجور !!
لذلك فالطرح الأخلاقي (الديني) عادة هو طرح غيبي متعصب دينيا مدعي للقداسة و متناقض مع طرح ديني آخر هو أيضا غيبي متعصب دينيا مدعي للقداسة !! و بإختلاف المعايير الأخلاقية بين الأديان الخرافية و الفلسفات العلمانية نجد الكثيرين يعتبرون الاخلاق مجرد وجهة نظر .. مفهوم هلامي خيالي بلا أصل ولا ملامح محددة أو مبادئ واضحة. لذلك يصعب على الكثيرين معرفة و فهم ماهية السلوك الأخلاقي, ناهيك عن الإلتزام به .. بسبب هذا التضارب و التصارع بين معايير أخلاقية متناقضة أشد التناقض و كلا منها يدعي القداسة. و تبدو فجاجة و سخافة هذا الجنون السلوكي حين يعجز مجتمع متدين عن الإلتزام بسلوكيات يراها هو نفسه مقدسة ولا يمكن التساؤل حولها أو الشك فيها, و هو ما جعل الشيخ الأزهري محمد عبده يقول بعد زيارته لفرنسا و مشاهدته لطبيعة الحياة فيها : رأيت في فرنسا إسلاما بلا مسلمين, و في بلدي مسلمين بلا إسلام !! ولا تسأل كيف فربما كان الإسلام الذي رآه محمد عبده في فرنسا القرن التاسع عشر .. هو إسلام طائر في الهواء أو منتشر في الجو مثلا !!!
ما الأخلاق ؟
أولا و قبل أي شيء, يجب تحديد الأخلاق بمفاهيم واضحة و معايير محددة حتى لا يتشتت الموضوع.
الأخلاق القويمة ليست إلا تقنيات سلوكية فعالة يتم تعلمها و التدرب عليها لتحقيق المصلحة الفردية و الجماعية. فالأخلاق هي غاية و وسيلة و سعي, أو علم و تقنية و تدريب: الغاية هي منفعة الفرد و المجتمع, و منفعة الفرد هي ترقيه المادي و المعنوي في الحياة و المجتمع بحيث يتمتع بالوعي و الذكاء و الوفرة المادية و السعادة و الأمان و حب الناس و إحترامهم .. أما منفعة المجتمع فهي تعميم هذة المكاسب للجميع.
و لأن منفعة الفرد قد تتعارض مع منفعة المجتمع أحيانا, فلذلك يعتبر السلوك الأخلاقي علما يهدف لمعرفة و دعم الغايات النفعية للمجتمع دون الإخلال بمنفعة الفرد .. و أيضا معرفة و دعم الغايات النفعية الفردية دون الإخلال بمنفعة المجتمع. فبالتأكيد هناك مساحة تقاطع و اتفاق بين مصلحة الفرد و مصلحة المجتمع, و هذة المساحة هي غاية الأخلاق .. اما حين تتعارض مصلحة المجتمع مع مصلحة الفرد فمصلحة المجتمع أولى و أهم لأنها أساسا تدعم مصلحة الفرد على المدى الطويل. الغاية الأخلاقية هي خير الفرد و المجتمع, الخير بمعناه النفعي المادي و بمعناه النفعي المعنوي .. و لذلك فالغاية الأخلاقية هي علم يتم بحثه و دراسته و الكشف عنه لمعرفة و دعم مساحة التصالح و التلاقي بين منفعة الفرد و منفعة المجتمع بقدر الإمكان, و معرفة كيف يمكن تحقيق منفعة المجتمع ككل بأقل خسائر ممكنة لمنفعة الفرد.
و حين تكون الغاية الأخلاقية علم فالوسيلة الأخلاقية تكون تقنية. و التقنية كمفهوم ليس المقصود به هو الأدوات المتطورة فقط مثل الكمبيوتر و الصاروخ و الروبوت, فالتقنية هي الوسيلة الأكثر فعالية و كفاءة لتحقيق الهدف (أيا ما كان هذا الهدف) و التي لها ميكانيزم محدد يمكن نسخه و تكراره و تطويره. فمن يريد زرع محصول معين بأفضل طريقة من حيث رخص التكاليف و جودة المحصول و غزارته, قد يستخدم أسمدة معينة او مبيدات أو ميكنة زراعية (أدوات) و قد يستخدم تقنيات زراعية معينة تعفيه من إستخدام المبيدات أو الأسمدة الكيماوية مثلا .. فالعبرة ليست بالأدوات بل العبرة بدراسة الجدوى و التجريب و التعلم و تحقيق المنفعة المرغوبة بأكبر فعالية و كفاءة ممكنة. و الغاية الأخلاقية تخضع لنفس معايير الفعالية و الكفاءة أيضا .. فالسلوك الذي يحقق أكبر منفعة للفرد و المجتمع بأقل خسائر ممكنة هو السلوك الأخلاقي.
العنف مثلا هو مشكلة للفرد و المجتمع على حد السواء و معالجتها يحتاج لحلول فعالة و تقنيات سلوكية تتمتع بالكفاءة .. و ليس إلي كلام مقدس لا أحد يقوم بتنفيذه لأنه فاشل عمليا. فالأخلاق القويمة ليست فاشلة عمليا بل هي حلول سلوكية سابقة التجهيز لمشاكل يتعذر إقتلاعها من جذورها و لذلك تم تطوير الآليات الأخلاقية لمواجهتها بشكل روتيني كلما ظهرت هذة المشاكل .. و مشكلة العنف هي أحد المشاكل الإجتماعية المزمنة و التي تحتاج إلي تطوير علاجات سلوكية لكي يتم إستخدامها وقت اللزوم.
الحل المسيحيفي إنجيل متى, إصحاح 5 (38-42) : الموعظة على الجبل
سمعتم انه قيل عين بعين و سن بسن. و اما انا فاقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر ايضا. و من اراد ان يخاصمك و ياخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا. و من سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين. من سالك فاعطه و من اراد ان يقترض منك فلا ترده.
هذة الآيات يفتخر بها المسيحيون و يعتبرونها أفضل تعاليم تدعو للتسامح و الأخلاق الراقية !! و هي في الحقيقة تعاليم فاسدة يمكن إظهار مكمن الفساد فيها لو تم تعديل بسيط في كلمات الآيات لتوضيح المعنى ..
سمعتم انه قيل عين بعين و سن بسن. و اما انا فاقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فسلطح له قفاك أيضا. و من اراد ان يخاصمك و ياخذ ثوبك فاترك له لباسك ايضا. و من سخرك ميلا واحدا ففلقس له مؤخرتك أيضا. من سألك فاعطه و من اراد ان يقترض منك فبع عفش بيتك و شبرقه.
و الغرض من هذا التعديل ليس تشويه تعاليم المسيح الإنجيلية, لأنها مشوهة أصلا .. بل الغرض هو توضيح مدى الحمق و الفشل الذي تتمتع به هذة التقنية السلوكية في الخضوع و التذلل للمعتدي. و لنفترض أن شخص مسيحي مثالي (المسيح ذات نفسه) يمشي في الشارع مع خطيبته أو زوجته, ثم فوجئ ببلطجي يريد أن يعتدي على زوجته أو أن يأخذها معه إلي مكان ما : فما هو الموقف المسيحي الإنجيلي السليم في هذة الحالة ؟!!
الآية واضحة و تقول : من اراد ان يخاصمك و ياخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا. فهل هذا يعني ان من أراد أن يخاصمك و ياخذ زوجتك أترك له أمك أيضا ؟!! ألا يجب معالجة كل أمورنا “بالحب” ؟!!
لذلك فمنطق المزايدة الأخلاقية فاشل, و هو المنطق الذي لم يدعو إليه المسيح فقط بل يمارسه كل رجل دين الآن من المسيحية و الإسلام و غيره. نعم الحب جميل و التسامح جميل و الإرتقاء فوق الغضب و الكراهية هي مواقف رائعة و إنسانية بلا جدال .. لكن هذة المواقف و المشاعر ذاتية داخلية, فهي لا تقدم حلولا عملية لمشكلة واقعية دائمة مثل مشكلة العنف. لذلك تعاليم المسيح لا تمثل حلولا مبتكرة أو إبداعية لمشاكلنا, و بالتالي فهي ليست رقيا و لا سموا و لا لها أي قيمة أخلاقية بأي حال. ثم إن هذة التعاليم الفاشلة لا يوجد مسيحي واحد ينفذها بهذة الطريقة, بل إن الغرب المسيحي و كل شعب تفشت فيه المسيحية لم يتعلم التسامح و الحب حتى بطريقة عقلانية ممكنة .. بل على العكس تعلموا كل غضب و كراهية و غضب و قساوة قلب. يعني مجرد تعليم الناس أن التسامح الأهبل هو السلوك المحترم لن يجعلهم إلا شيء من نقيضين و هو ما تنتجه المسيحية فعلا :
- أشخاص خانعة بليدة جبانة لا كرامة لها و لا كيان.
- أشخاص قاسية متجبرة دموية عنيفة على العكس تماما من هذة التعاليم المبالغ فيها أصلا.
فلماذا التطرف و المبالغة في الطرح الأخلاقي ؟ و لماذا المزايدة التي لن تنفع أحدا ؟ و لماذا النفاق و الكذب الذي يحترفه المسيحيين في إدعاء هذة السلوكيات في الظاهر و هم في الباطن أسوأ ؟!
الأخلاق ليست تطرف ولا مبالغة ولا مزايدة ولا إدعاء ولا مظهرية ولا نفاق ولا كذب كما يتصور الكائن المؤمن بالخرافات الدينية المقدسة, الأخلاق هي حلول عملية لمشاكل واقعية .. هي تحكم في الذات لصالح الذات و لصالح المجتمع : لذلك فمن لم يفهم أن المسيح لم يكن شخصا أخلاقيا بأي معنى (حتى بغض النظر عن كونه إلها أو حتى شخصا حقيقيا) بل كان بوهيمي تافه مات معلقا على عصاية من أجل لا شيء فلن يكون فقط منحرف عقليا بل و منحرف سلوكيا أيضا.
الحل الإسلامي
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (المائدة 45)
و يرد المهاتما غاندي على الإله القرآني : العين بالعين ستجعل كل العالم أعمى !
لمن يطلع على الشيوعية سيعرف أنها بدأت كمشروع طموح : من كل حسب طاقته و لكل حسب عمله, و لذلك هي ايديولوجيا مقبولة من حيث الغاية .. لكنها فشلت في تحقيق ما تدعي من عدل و آخاء و كفاية, و هي لذلك تعتبر مرفوضة كوسيلة لأن تقنياتها فاشلة. المسيحية أيضا تنادي بحب الأعداء و التسامح الأهبل, و لكنها فشلت في تحقيق ما تدعي أيضا .. فهي فاشلة من حيث الغاية لأن الحب مشاعر جيدة لكنه ليس غاية في ذاته, و فاشلة من حيث الوسيلة لان تقنياتها لا تعمل ولا تصلح. المثالية و المزايدة الكلامية على السلوك ليس أمرا رائعا و لا مفيدا, و لهذا يمكن قياس أي عقيدة او مشروع للتغيير بطموحه و طرحه من ناحية, و بإمكانية تحقيقه من ناحية ثانية, النظري و العملي معا.
لكن بالنسبة للإسلام فلا توجد فلسفة أخلاقية او تنظير أخلاقي أساسا !!
من حيث الغاية الأخلاقية و من حيث التقنية العملية, فالإسلام لا محل له من الإعراب. القرآن حتى كنص أدبي عشوائي جدا و فوضوي .. لا له فصول موضوعية و لا يتناول أي قضية بشكل واضح أو محدد بل من كل فيلم أغنية. لذلك يعتمد الإسلام على أخلاق الرخص من خلال آلية الحلال و الحرام الغير مسببين و الغير منطقيين. فالإسلام فلا يوجد به لا مثالية منعزلة عن الواقع مثل العدل في الشيوعية و التسامح في المسيحية, و لا يوجد به براجماتية أو واقعية متطرفة تتكيف مع الواقع بكل شروره دون أي طموح لتغييره .. و لا له أي خط فلسفي أصلا لكي تتفق معه أو تختلف معه. النصوص الإسلامية سيئة في معظمها ماعدا بعض الآيات التي تدعو المرء للأمانة أو للبر بالوالدين أو غيره, و هي غالبا تعتمد على منطق مغلوط في هذة الدعوة. و لو حاولنا مقارنة النصوص الإسلامية النظرية بالواقع و التطبيق العملي, سنجد أن النصوص الإسلامية (قرآن و سنة) بنفس حمق و جهل التطبيق الإسلامي .. بل و تزيد عليه في أحيان كثيرة.
و يقوم النظام السلوكي المقدس الذي إستنه الإسلام بالتركيز على منع/منح رخصة دينية لفعل أي شيء, و غالبا لا يعرف المسلم أبدا ما اذا كان الشئ حرام أم حلال حتى يقرأ نصا دينيا بنفسه, آية قرآنية أو حديث او فتوى .. الخ. هذا لأنه لا يوجد خط فلسفي واضح في الإسلام بحيث يجعل المرء قادرا على إستنتاج الموقف الإسلامي من أي قضية قبل أن يعرف عنه من خلال النص. فالمسلم لا يوجد لديه أي فكرة عن المبادئ التي يدعو إليها الله لأن الله لا يدعو أصلا إلي مبادئ محددة .. و لذلك يحتاج دائما للإحتكام الي فتوى او الحصول على رخصة. لا يوجد مبادئ في الإسلام, بل يوجد فقط حلال و حرام .. و لهذا فكل من يتربى تربية إسلامية يصعب عليه استيعاب مفهوم “المبدأ” أو “القانون”.
دين الرخص لا المبادئ
ففي الإسلام يستطيع المسلم لو وجد الرخصة (الفتوى) ان يفعل الشيء أو عكسه, و لذلك نسمع عن فتاوي أغرب من الخيال : فتوى تبيح الزواج من بنات الحضانة, أو فتوى تبيح مضاجعة الزوجة الميتة, أو فتوى تبيح اللواط في سبيل الله, أو فتوى تبيح سرقة الكفار و أهل الذمة, أو فتوى بوجوب إرضاع الكبير .. الخ. و الجدل يكون دائما حول ما إذا كانت الفتوى صحيحة و معتمدة على فقه جيد و قراءة صحيحة للقرآن و السنة أم لا, و قد يصاب كثير من المسلمين بالدهشة حين يعرف أشياء غريبة جدا يدعو لها أو يقرها دينه.
ابحث عن الرخصة : هذا هو شعار الإسلام. و من ثم ينقسم المسلمون لنوعان, أحدهما يستفتي الشيوخ في كل سخافة أو تفاهة ( الو سيدنا الشيخ, الحقني يا سيدنا الشيخ .. أنا أريد اللعب في أنفي و لا أعرف هل هذا حرام أم حلال ؟ لا يا ابني هذا حرام قطعا, هناك حديث واضح في البخاري ان اللاعب في أنفه و المدلك لعينه و الهارش في راسه هالكون جميعا في نار جهنم !!), و ثانيهما لا يهتم بهذة الهلاوس اصلا و يعتمد على دماغه و ضميره .. لكنه عشوائي مرتبك, احيانا يكون طيبا راقيا و أحيانا شريرا منحطا لانه لا يعرف و لا يتبع و لا يقبل أي فكر أخلاقي أو منطق لسلوكه لأنه لم يتربى على التفكير أو السلوك بهذة الطريقة .. و هي اللعنة التي غالبا ما تلاحق من إتبع يوما هذا الدين الفاسد.
ثم و بالإعتماد على الرخص الدينية يبيح الإسلام لمن يؤمن به و يتبعه ان يسلك بشكل غريزي تلقائي دون أن يحاول إعمال عقله أو إبتكار حلول حقيقية للمشاكل اليومية. فمن يضربك إضربه و من يصالحك صالحه .. و كأن المرء يحتاج إلي إسلام لكي يتعامل بهذة الطريقة !!
و الحالة النفسية الطبيعية لشخص يتعرض لإعتداء أو عدوان هو أن يكون غاضبا من هذا العدوان و أن يرفض ماحدث كما يرفض أن يتم تكراره مرة أخرى. و من الطبيعي جدا أن يبحث أي شخص مظلوم أو مضطهد أو ضحية عدوان عن العدل و الإنصاف و رد الإعتبار و هو غالبا سيرى في الإنتقام على الطريقة الإسلامية و اليهودية موقفا بديهيا منطقيا. أما المسيحي الذي سينكر شعوره بهذا الغضب و الرغبة في رد العنف و عقاب العدوان هو إما يكذب على الناس و هذا سئ .. و إما ينكر مشاعره و يكذب على نفسه و هذا أسوأ كثيرا.
الغضب الناتج عن التعرض للعنف و العدوان هو رد فعل نفسي عاطفي طبيعي جدا .. ولا يمكن لومه أو إعتباره شئ خاطئ في ذاته أو كما يسميه المؤمنين خطيئة أو إثم : فالمشاعر موجودة و هي ردود أفعال طبيعية لأحداث تحدث لنا .. فهي لا تفنى ولا تستحدث من عدم بل تتحول من صورة إلي أخرى كأي ظاهرة طبيعية في العالم. لكن الخطأ الذي وقع فيه الإسلام و الخطأ الذي يقع فيه كل من يتعامل بطبيعية و تلقائية مع العنف و الظلم الواقع عليه, من خلال الإنسياق وراء الغضب و الرضوخ لشهوة الإنتقام .. هو أن هذا السلوك التلقائي الطبيعي غير فعال أو كفء عمليا في معالجة مشكلة العنف, لا بالنسبة للفرد ولا بالنسبة للمجتمع.
التقنيات السلوكية المناسبة
حين يراقب المرء الفشل الديني في علاج ظاهرة دائمة و مشكلة مزمنة مثل مشكلة العنف/الغضب يمكن له ان يقيم بنفسه و يطور وسائل دائمة لنفسه لحل هذة المشكلة. فلكي نستطيع كبشر عقلاء عمليين معالجة العنف يجب علينا الآتي ..
1- الإدراك السليم للمشكلة
مبدأيا يجب على المرء أن يعرف أنه لا وجود لسلوكيات حلال مقدسة و سلوكيات حرام نجسة, هذة المنظومة القيمية التي تحكم السلوك خرافية و حمقاء ولا تخضع لأي نوع من أنواع السببية أو المنطقية. المنهج الأفضل للتحكم في السلوك يكون من خلال معيار الجدوى (منفعة الفرد و المجتمع), فأي تقنية سلوكية هي إما تتميز بالفعالية و الكفاءة و إما تقنية فاشلة لا جدوى منها. و بهذا المنهج يمكن التفكير في كل الإمكانيات السلوكية بمنظور مختلف تماما بحيث تكون كل الحلول ممكنة و لا شيء حرام أبدا كما أنه لا شيء حلال أو لا يخضع للسببية و المحاسبة .. و العبرة فقط بالجدوى و الفعالية و الكفاءة لأي تقنية سلوكية أو تكتيك أخلاقي.
فمشكلة مثل مشكلة العنف في السلوك البشري و المعاملات البشرية يمكن إعتبارها مرضا معديا أو وباء ينتقل بالمعاملة, فالمرء يكون آمنا و راضيا في حياته حتى يتعرض إلي عنف أو عدوان مادي فيحمل هذا العنف و الظلم معه في كل مكان في صورة غضب معلن أو مكبوت محاولا بكل الطرق أن يفرغ شحنة الغضب هذة في صورة عنف مادي مرة أخرى سواء بالقول أو الفعل أو الممارسة. و المشكلة الكبيرة في العنف هو أن ضحيته دائما أشخاص بلا ذنب ..
فالرجل قد يتعرض لعنف لفظي من رئيسه في العمل مثلا, أو عنف مادي في الشارع و يصعب عليه رد العنف بسبب فارق القوة أو صعوبة الظروف, فيحمل معه العنف إلي بيته و يوجهه إلي زوجته أو إلي أطفاله من خلال ممارسات يراها مبررة و أخلاقية هي تربيته لأطفاله او تأديبه لزوجته مثلا .. و هي في الحقيقة عنف مردود في غير مكانه. و من ثم تمارس الزوجة العنف على أطفالها و يمارس الأطفال العنف على بعضهم .. او قد لا يجدون متنفسا لرد العنف الذي وقع عليهم فيكبتون الغضب بداخلهم بشكل يجعله يتضاعف و يتضخم بمرور الزمن و يحولهم إلي قنابل زمنية مستعدة للإنفجار في الظروف المناسبة و الضحية المناسبة التي غالبا ما تكون أطفالهم حين يكبرون .. في سلسلة لا تنتهي من العنف و الغضب و العنف.
لذلك يجب أن نعرف أولا أن : كلنا جلادون, كلنا ضحايا .. لا أحد يمارس العنف أو الظلم بدون دافع و حافز لهذة الممارسات. هذا هو قانون السببية اللامحدودة, الحرية مجرد خرافة تبرر لنا الإنسياق خلف شهوة الإنتقام. فالعنف/الغضب لا يفنيان و لا يخلقان من عدم بل يتحولان من صورة إلي أخرى .. العنف إلي غضب و الغضب إلي عنف. و كل مجرم أو قاتل هو شخص لديه فائض كبير من الغضب المكبوت بسبب عنف تعرض له في وقت سابق إن لم يكن لديه إختلال في وظائف دماغه .. و في كل الأحوال هو مجرد آلة بيوكيميائية تعمل بشكل تلقائي لاواعي. و بهذا الفهم نعرف ان الغضب هو شعور طبيعي و مبرر لكنه غير واعي ولا عقلاني ولا منطقي بالمرة .. لأن الجميع لديه أسباب لاواعية للغضب و إشتهاء العنف و الإيذاء.
2- التحكم في طاقة الغضب
كل إنسان لديه طاقة غضب بداخله شاء هذا أم أبى, تعرض للضرب و هو صغير من والديه او من زملاؤه في المدرسة, عانى من فقر (غاندي : الفقر هو أسوأ أشكال العنف) أو تمييز أو إهمال أو سوء معاملة بأي شكل .. و هو يتعرض للعنف اللفظي و المعنوي بشكل يومي دائم و غير ملحوظ من الجميع. و لهذا فكل إنسان عاقل مطالب بإيجاد مخارج و متنفسات مقبولة لطاقة الغضب التي بداخله, و أهم شيء في هذا التنفيس ألا يدعم تزايد و نمو حالة الغضب و الكراهية في المجتمع, و من ثم ظاهرة العنف في المجتمع .. حتى بمنطق أناني صرف لأن هذا العنف سيدور و يدور و يرجع له في النهاية, شاء هذا أم أبى.
و هذا يتطلب من المرء أن يتعلم كيف يتفادى الألعاب النفسية التي تمارس في لاوعيه من خلال وسائل الدفاعات النفسية Psychological Defense Mechanisms, فالمرء عادة يستخدم أساليب دفاعية لاواعية كثيرة لتبرير ممارسات مرضية تجاه نفسه مثل حيل خداع الذات : كالإنكار (كما تدعو التعاليم المسيحية المريضة) و الكبت و التبرير (كما تدعو التعاليم الإسلامية المريضة) و الإسقاط و التكوين العكسى و العزل .. و هكذا. و الحيل الهروبية النفسية : كأحلام اليقظة و النكوص, بالإضافة للحيل الإستبدالية النفسية و هي من اهم انواع الحيل التي يمارسها المرء على ذاته, لأنها تنعكس على المجتمع أيضا : كالتعويض و التحويل. و من أفضل الحيل النفسية التي تساهم في منع إنتشار وباء العنف في المجتمع هي حيلة التسامي أو الإستعلاء Sublimation .
و التسامي هو حيلة دفاعية يلجأ إليها الفرد لخفض التوتر والقلق و تصريف المشاعر السلبية, وهي من أهم الحيل وأفضلها ، و من أكثرها انتشاراً، ويدل استخدامها على الصحة النفسية العالية. فبواسطتها يستطيع الإنسان أن يرتفع بالسلوك العدواني المكبوت إلى فعل آخر مقبول اجتماعياً وشخصياً. فمثلاً الإنتاج الفكري والأدبي والشعري والفني ما هي إلا مظاهر لأفعال تم التسامي بها وإعلاءها من دوافع ورغبات داخلية مكبوتة في النفس إلى أعمال مقبولة وتجد الرضا من أفراد المجتمع. ويعتبر التسامي من الحيل الدفاعية الراقية التي تجعل الفرد يحقق أكثر قدر من الاحترام والتقدير وبالتالي خفض مستوى القلق إلى أدنى حد ممكن.
مثال على ذلك المرأة التي تكون مطالبة بعمل ريجيم فتظهر اهتمام بالرسم وترسم العديد من اللوحات الفنية الجميلة وقد يكون في معظمها رسوم للفواكة. أو كالذي لايشعر بالرضا عن حياته الزوجية فيشغل نفسة بالتصليحات والاضافات في منزلة مما يعني بانه لا وقت لدية للعلاقات الاجتماعية. إن هذه الحيلة الدفاعية تخفف من شدة الصراعات والتوتر الداخلي لدى الإنسان من خلال تحويل تلك الأفكار والصراعات إلى مجالات مفيدة وسليمة ومقبولة اجتماعياً، كما أنها تمكن الفرد من الإبقاء على هذه الصراعات مكبوتة وبعيدة عن الوعي. فالتسامى هو الإرتفاع بالدوافع التي لا يقبلها المجتمع وتصعيدها إلى مستوى أعلى أو أسمى والتعبير عنها بوسائل مقبولة اجتماعياً.
3- الوقاية خير من العلاج
ثالث أهم تقنية يتم معالجة العنف بها هو الوقاية من العنف و عدوى الغضب, و ذلك عن طريق تفادي العنف نفسه بكافة الوسائل الممكنة. يعني بدلا من أن يتعرض المرء للعنف ثم يحاول تصريف غضبه بشكل غير ضار أو يحاول رد الصاع صاعين لمن أساء إليه .. يمكنه ان يتفادى العنف عن طريق تفهم غضب الأخرين و إمتصاصه.
كل شخص واعي و متعلم و مثقف مطالب بأن يكون أكثر هدوءا و حكمة في التعامل مع الآخرين بقدر الإمكان. بطبيعة الحال ليس كل الناس لديهم نفس القدرة على ضبط النفس .. فهناك ناس أقدر من ناس. و لذلك فالأكثر عقلانية و رشدا و الأكثر قدرة على ضبط النفس عليه واجبات أكثر تجاه المجتمع لكسر حلقة العنف اللعينة و الحيلولة دون تماديها و إستفحالها. العاقل لا يسمح للمنفلتين في إنفعالهم و سلوكهم لكي يخرجوه من عقلانيته و هدوءه و ضبطه لنفسه, فالإنفعال و الإنسياق خلف المشاعر ضد العقلانية على طول الخط. اما الهدوء و الحفاظ على الإبتسامة اللطيفة و الكلمة الطيبة فهي تستطيع إمتصاص أو تشتيت أغلب حالات الغضب, و تعفي المجتمع كله من تحول الغضب إلي عنف و تمرير طاقات الغضب السوداء من شخص إلي آخر.
4- إجادة تقنيات الدفاع عن النفس
رياضات الدفاع عن النفس كثيرة, و من أهمها : الكونج فو و التايكوندو و الملاكمة و غيرهم. و هذة الرياضات بالإضافة لكونها من أهم وسائل التنفيس المتحضر عن طاقة الغضب و الإستغلال الذكي لها .. فهي وسائل فعالة و ناجحة لتفادي العدوان و فرض القيم العقلانية بالقوة على من لا يرتضيها.
ففي حالات كثيرة يكون فائض الغضب و الإعتلال النفسي كبيرا عند بعض الناس, و ينعكس هذا على إنفعالاتهم المنفلتة و سلوكهم السئ المنحرف. و مع أنهم مسيرين و ليسوا مخيرين لكن إيقافهم عند حدهم و منعهم من تمرير طاقة الغضب السامة في المجتمع يستدعي إستخدام ذكي و منضبط للعنف من خلال أحد وسائل الدفاع عن النفس .. و بشكل يمنع إنتشار العنف بدلا من أن يدعمه. و تقنيات الدفاع عن النفس هي تقنيات ناجحة و فعالة في هذا السياق, فهي يمكن أن تستخدم لا للدفاع عن النفس فقط بل و في فرض القيم العقلانية و الحوار المتحضر بالقوة الجبرية على الرافضين أو غير القادرين على إتباع هذة المفاهيم بشكل إرادي واعي.
5- ترشيد الإنتقام
كل إنسان من حقه حماية نفسه و الحفاظ على أمنه و كرامته, لكن في بعض الأحيان يتعرض لمواقف حيث ينتهك فيها هذا الأمن و تلك الكرامة بشكل أو بآخر. الإغراء الأول في هذة الحالة هو الإنتقام و رد الإعتبار, و هو إغراء قوي و شهوة تفرض نفسها .. بل إن عدم الإستجابة لها قد يعني كبتها و تعظيمها و تفجيرها في أشخاص لا ذنب لهم : لان العنف طاقة, و الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم. ثم إن السكوت عن الظلم و العنف غالبا ما يعطي إشارة خضراء لآخرين من ضعاف النفوس ان هناك شخص ضعيف (الشخص المظلوم أو الضحية) يمكنه تلقي الصفعات دون أن يردها .. فبدلا من أن يساعدوه على لملمة شتات نفسه يقوموا بتفريغ فائض غضبهم فيه : يحدث هذا كثيرا مع الأطفال و الضعفاء و يتسبب في مضاعفة العنف كثيرا في المجتمع.
لذلك يمكن فهم رغبة المظلوم أو الضحية في الإنتقام, و خصوصا أنه لا وجود لآلهة أو عدالة سمائية ما تنتقم للمظلومين بأي شكل .. لكن هناك عدالة أرضية. فالعدالة الأرضية المحدودة أو قضاء الدولة يمكنه ان ينتصر للمظلومين و بشكل شرعي قانوني منضبط, ليس من باب الإنتقام (لأن الإنتقام لا معنى له مع ناس مسيرين و ليسوا مخيرين أصلا) لكن من باب سن قاعدة قانونية تمنع الجميع من العدوان على الجميع .. إنها الدولة القانونية الراعية للتحضر و العقلانية. لذلك في كل مكان هناك سلطة شرعية و اللجوء إلي السلطة لأخذ الحق موقف عقلاني طبيعي و أسلوب مشروع لرد الإعتبار و الحفاظ على الأمن و الكرامة .. بدلا من أن نتحول إلي غابة حيث يأكل فيها القوي الضعيف و يتحول الناس جميعا إلي حيوانات غاضبة منفلتة لاعاقلة.
لكن هناك أيضا واجب على المنتقم هو أن يقوم بترشيد مشاعر الغضب لديه قدر الإمكان بحيث لا يخضع أو ينساق لطاقة العنف السوداء و يتحول إلي آلة لنشر الشر في المجتمع بسبب تعرضه للعنف. يعني رد الإعتبار و أخذ الحق هو واجب أخلاقي على المرء تجاه نفسه و تجاه مجتمعه أيضا .. لكن الخضوع للغضب و التلذذ بالإنتقام امر مختلف. الإنتقام لذة حرام في جميع الأحوال, و الإنسياق خلف هذة الشهوة قد يتسبب في إنحطاط الإنسان إلي الحيوانية .. لذلك فأخذ الحق بشكل شرعي قانوني قدر الإمكان ثم محاولة التنفيس المتحضر عن فائض الغضب بعد ذلك و محاولة التسامي فوق هذة الطاقة السوداء أو إستغلالها بشكل مفيد و نافع يعتبر هو الموقف السليم في هذة الحالات.
الخاتمة
إن إنتشار التقنيات السلوكية الناجحة في المجتمع بشكل عام يمكنه ان يكون داعما للإستقرار النفسي للأفراد و للسلم الإجتماعي, لكن الأديان هنا تمارس دورا سلبيا في تشتيت عقول الناس بسلوكيات مقدسة غير مسببة ولا تخضع للمساءلة أو لحسابات الجدوى و النفع. و أسوأ ما تقوم به الأديان من خلال تشتيت الجهود الأخلاقية و إيجاد وسائل غير نافعة أو حتى ضارة لإستغلال الطاقات الأخلاقية عند الناس هو إضفاء القداسة و الألوهية على أي موقف سلوكي .. مع إن أي تقنية في العالم هي شيء خاضع للتطوير و التعديل و التحديث بشكل مستمر و المعيار دائما يكون بفعاليتها و كفاءتها.
الأخلاق بوجه عام يجب فهمها كلعب الشطرنج أو كتكتيكات الحرب أو رياضات الدفاع عن النفس : فالمرء يتدرب كثيرا لكي يطور و يجيد ردود أفعال معينة تجاه مشاكل حياتية حتمية و دائمة في حياتنا .. بالضبط كما يتدرب لاعب الشطرنج على تكيتكات معينة و كما يتدرب لاعب الكونج فو على حركات دفاعية/هجومية ردا على حركات هجومية/دفاعية. الأخلاق أيضا هي تخطيط مسبق و دراسة عقلانية منهجية للتعامل مع المشاكل المتكررة التي نواجهها في حياتنا : هي ليست نفاق إجتماعي نمارسه لكي يمدحنا الناس, و ليست سلوكيات غريبة بلا سبب و بلا معنى يقوم بها المرء لكي يحصل على ثواب ما من إله خرافي .. ربما حورية زيادة أو شجرتين في جنة خرافية. إنما الأخلاقيات هي مجرد تكتيكات سلوكية يحكمها الفعالية و الكفاءة في تحقيق المنفعة للفرد و المجتمع, و هي تحتاج وعي بمعناها و جدواها و إلا صارت ببغائية و غباوة و تقليد اعمى .. كما أنها يجب أن تكون قيد التطوير و التحديث بشكل دائم لتعظيم المنفعة للجميع أكثر و أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق