لا شك أن هذا العالم شديد التعقيد يمكن النظر إليه من زوايا كثيرة و وجهات نظر متعددة, فالفنان مثلا قد ينظر إلي العالم كلوحات فنية متصلة, و العالم الرياضي قد ينظر إلي العالم كأرقام و معادلات رياضية, و العالم الفيزيائي قد ينظر إلي العالم كقوانين فيزيائية معقدة .. و ربما كانت كل وجهات النظر هذة صحيحة بل و مكملة لبعضها, إلا أن وجهة النظر العلموية يمكن إعتبارها الأكثر نظامية و منهجية على الإطلاق. فبإعتبار الحقيقة العلمية أنها الشكل الوحيد المتاح للحقيقة, فالعلموي لا يدرك العالم إلا بالحواس العلمية (التليسكوب و الميكروسكوب و الرادار و السونار .. الخ) لأنها أفضل و أعظم من الحواس البشرية الفردية العادية .. لكن بسبب ضخامة و عمق التراكم المعرفي و التقني الذان بدآ مع أول إختراعات و إكتشافات علمية, لا يمكن إستخدام العلم لتكوين نظرة علمية شاملة للعالم بدون منهجية علمية للربط بين الموضوعات العلمية الضخمة العميقة. و لهذا كانت نظرية الانظمة هي أفضل مدخل للعلم من وجهة النظر العلموية.
و ما يميز الطريقة العلموية في النظر إلي الأمور و إلي العالم ككل من حيث كونه “أنظمة (آلات) متحركة تتضمن بداخلها عوامل انحلالها”, أن هذة الطريقة تتيح للمتابع وعي و إدراك أكبر و أشمل لعالمنا من خلال فهمه لطبيعة حركة العناصر و علاقتها ببعضها البعض و كيفية عملها و أسباب نشوءها و هل هي من عوامل الإستمرار للنظام أم من عوامل إنحلاله .. الخ. هي أفضل طريقة منظمة للتعرف على العالم بشكل يفرض طريقة تفكير منظمة على ذهن المتابع بل و تساعده أيضا على معرفة و ابتداع أساليب للتحكم في الأنظمة بطريقة علمية و تعطيه رابطا عقليا متصلا بين كل الظواهر الطبيعية الموجودة من أقصى العالم إلي أقصاه.
نظرية الأنظمة
منذ خمسينات و ستينات القرن العشرين بدأت علوما جديدة في الظهور و الإستحواذ على فضول و إهتمام العلماء, و من ضمن هذة العلوم : نظرية الأنظمة Systems Theory و نظرية الفوضى Chaos Theory و علم التحكم Cybernetics و الذكاء الإصطناعي Artificial Intelligence. نظرية الأنظمة تم تأسيسها من قبل عالم الأحياء الألماني / لودفيج فون بيرتالانفي (Ludwig von Bertalanffy) و عالم الإقتصاد الإنجليزي / كينيث بولدينج (Kenneth Boulding) و آخرين بين 1940 و 1970, وتعتمد على مبادئ الفيزياء والبيولوجيا والهندسة التطبيقية. بعد ذلك تابع هذا العلم نموه وتداخله مع علوم أخرى عديدة بما فيها : الفلسفة ، علم الاجتماع ، نظرية التنظيم Organizational Theory ، الإدارة Management ، إضافة للاقتصاد و علوم أخرى.
و نظرية الأنظمة لا تسعى فقط لتقديم العالم كله بإعتباره أنظمة و معرفة كيفية عمل هذة الأنظمة و الروابط المشتركة بين كل الأنظمة الموجودة في العالم .. بل و تسعى أيضا لقراءة العلم نفسه على أساس أنه منظومة معرفية ديناميكية واحدة (آلة متحركة) مكونة من عناصر متداخلة هي كل العلوم النظرية و التطبيقية و الإنسانية. و لذلك فالإلمام و الإستيعاب لمبادئ نظرية الانظمة يمكنه أن يكسب المرء فهما شاملا للعلم و من ثم العالم كله الذي يسعى العلم لقراءته و إكتشافه. فالعالم كله هو أنظمة متحركة أو آلات حية توجد و تستمر في وسط معين و تتفاعل مع أنظمة (آلات) أخرى و لديها عوامل إنحلال داخلها و عوامل إنحلال خارجها تظل تقاومهم حتى تنهار مقاومتها في النهاية فتتحلل عناصرها لكي تنضم إلي أنظمة أخرى لا تزال تعمل .. يسري الأمر على كل شيء ابتداءا من المجرات و النجوم و الكواكب و لا ينتهي بالبشر و بقية الكائنات الحية.
ما النظام ؟
النظام هو كل مجموعة عناصر تشكل بمجموعها كلاً واحداً مع بعضها البعض حيث يرتبط كل عنصر بالآخر, فنظام الساعة ليس هو مجموع القطع و التروس المكونة لها فقط .. بل بتركيبها و علاقة الأشياء ببعضها أيضا. لهذا كل نظام له سمات معينة :
- النظام له بنية، تعرف بأجزاءه و تركيبه.
- النظام له سلوك، والذي يتضمن (إدخال، إجراء العمليات، وإخراج) المواد، الطاقة أو المعلومات.
- النظام له ترابطية داخلية، فأجزاء النظام المختلفة ترتبط وظيفياً وبنيوياً فيما بينها.
و يمكن تقسيم الأنظمة في العالم إلي نظم مفتوحة و نظم مغلقة (أو) نظم بسيطة و نظم معقدة (أو) نظم ثابتة و نظم متحركة ..
1- النظام المفتوح : هو النظام الذي يتصف بوجود علاقة أساسيه بينه وبين البيئة المحيطة و تركز هذه الصفة على أهميه التفاعل المستمر بين النظام المفتوح و بين الظروف و الأوضاع البيئية المحيطة به ومن ثم فهو يتأثر و يؤثر فيها في الوقت نفسه.
النظام المغلق : هو ذلك النظام الذي يميل إلى التقوقع على نفسه و الابتعاد عن التفاعل مع معطيات البيئة و حاجاتها و توقعاتها و تطلعاتها و النظام الغلق يميل إلى تجاهل الاعتبارات الخارجية. فالنظم المغلقة تتميز بأنها محاصره ضمن حدود بحيث تحد من مرونتها وتفاعلها مع البيئة لأن طبيعة النظام نفسه لا تسمح بذلك فتعمل هذه الحدود على عزل المؤثرات القادمة من البيئة عن ذلك النظام.2- النظام البسيط : هو النظام قليل العناصر و قليل العلاقات بين العناصر و لهذا يسهل دراسة النظم البسيطة عن النظم المعقدة, و لهذا يلجأ الباحث في أي موضوع علمي إلي تفكيك النظام المعقد إلي نظم بسيطة لكي يسهل عليه دراسة و فهم النظم البسيطة كل على حدة .. ثم دراسة العلاقات بين هذة النظم البسيطة لمعرفة و فهم الصورة الشاملة للنظام المعقد كله.
النظام المعقد : هو كل نظام كثير العناصر كثير العلاقات فيتصف بالتعقيد, لكن صعوبة تعريف التعقيد يجعل وصف الأنظمة المعقدة ينطبق على الكثير من الأنظمة الفيزيائية مثل الشبكات الطبيعية أو المجردة أو الاصطناعية. و دراسة هذه الأنظمة المعقدة يندرج ضمن ما يدعى (علوم التعقيد Complexity Sciences) و هي تخصصات أكاديمية متداخلة. أمثلة الأنظمة المعقدة تشمل النظام الإجتماعي للنمل، النظام الإجتماعي للبشر، الاقتصاد، الجهاز العصبي، الخلايا الحية ومجمل الكائنات الحية. يضاف لها مؤخرا الطاقة الحديثة أو بنى الاتصالات التحتية، وما يتشكل عن ثورة الاتصالات الحديثة مثل مجتمع الشبكة. أهم خصائص هذه الأنظمة انها تتشارك في كونها شبكات بطريقة أو بأخرى طريقة ترابطها معقدة أو غير سهلة التمثيل، فالروابط بين أجزاء الشبكة متبادلة. وقد تحتوي على مكونات مختلفة ومتبادلة التأثير. ولكن كل نظام معقد له خصائصه ومميزاته وحتى علاقاته المنظمة بين مكوناته. الخاصية المشتركة وهي صعوبة أو محدودية نمذجة هذه الأنظمة رياضيا.
النظام المعقد : هو كل نظام كثير العناصر كثير العلاقات فيتصف بالتعقيد, لكن صعوبة تعريف التعقيد يجعل وصف الأنظمة المعقدة ينطبق على الكثير من الأنظمة الفيزيائية مثل الشبكات الطبيعية أو المجردة أو الاصطناعية. و دراسة هذه الأنظمة المعقدة يندرج ضمن ما يدعى (علوم التعقيد Complexity Sciences) و هي تخصصات أكاديمية متداخلة. أمثلة الأنظمة المعقدة تشمل النظام الإجتماعي للنمل، النظام الإجتماعي للبشر، الاقتصاد، الجهاز العصبي، الخلايا الحية ومجمل الكائنات الحية. يضاف لها مؤخرا الطاقة الحديثة أو بنى الاتصالات التحتية، وما يتشكل عن ثورة الاتصالات الحديثة مثل مجتمع الشبكة. أهم خصائص هذه الأنظمة انها تتشارك في كونها شبكات بطريقة أو بأخرى طريقة ترابطها معقدة أو غير سهلة التمثيل، فالروابط بين أجزاء الشبكة متبادلة. وقد تحتوي على مكونات مختلفة ومتبادلة التأثير. ولكن كل نظام معقد له خصائصه ومميزاته وحتى علاقاته المنظمة بين مكوناته. الخاصية المشتركة وهي صعوبة أو محدودية نمذجة هذه الأنظمة رياضيا.
3- النظام الثابت : هو النظام الذي لا يحدث له أي تغيير بمرور الزمن, فعناصره ثابتة لا تتغير و العلاقة بين عناصره ثابتة لا تتغير. و هذا النظام لا يمكن ان يتواجد في الطبيعة لأن كل الأنظمة الطبيعية ديناميكية متحركة, لكن النظام الثابت هو فكرة نظرية تم إختراعها لفهم و إستيعاب الأنظمة الديناميكية الطبيعية من خلال تفكيكها نظريا إلي نظم ثابتة (مثل الصور الثابتة التي نلتقطها لأنفسنا) .. أو من أجل البحث عن أكثر العناصر و العلاقات ثباتا في الأنظمة الطبيعية. فمن أمثلة الأنظمة الثابتة : الأشكال الهندسية, الاعداد الطبيعية, المعادلات الرياضية التي تصف جمل ثابتة.
النظام المتحرك (الديناميكي) : هو النظام الذي يصف الجمل التي تحكمها معادلات تفاضلية خطية أو معادلات تفاضلية خطية جزئية أو معادلة تفاضلية لاخطية أو معادلة تفاضلية لاخطية جزئية أو معادلة تفاضلية جبرية. جميع النماذج الرياضية التي تصف حركة نواس بسيط أو تدفق الماء في الإنبوب وغيرها, تعتبر أمثلة عن جمل حركية. و لكل جملة حركية حالات States, هذه الحالات هي أيضا الإحداثيات للفضاء الهندسي أو فضاء الحالة. لكل جملة حركية قاعدة تطور هي عبارة عن قاعدة (دالة رياضية) تصف ارتباط حالة الجملة مع الزمن أو المكان و بالتالي تحدد الحالات المستقبلية للجملة اعتمادا على حالتها الراهنة. يمكن أن تكون قاعدة تطور هذه الجمل حتمية: أي من أجل فترة زمنية معطاة ستتطور الحالة الراهنة إلى حالة أخرى وحيدة محددة مسبقا بدالة التطور للجملة. كما يمكن أن تكون احتمالية.النظام الديناميكي هو آلة أو ماكينة متحركة, و هو بهذا المفهوم يمكن إطلاقه كوصف لكل العناصر و الموجودات في العالم. فالذرة الواحدة لأي مادة هي آلة حركية و كل كائن حي هو آلة حركية و كوكب الأرض هو آلة حركية و النظام الشمسي هو آلة حركية و كل عناصر الكون و العالم هي آلات او ماكينات أو نظم ديناميكية متداخلة تعمل بالإعتماد على بعضها أو التوازي مع بعضها. و النظم الديناميكية أو الآلات الحركية ليست عينية فقط فهناك آلات حركية أخرى عبارة عن أنظمة ضمنية غير مباشرة, مثل : الأنظمة السياسية و الثقافية و الإجتماعية و النفسية و العقلية و المعرفية و العاطفية التي تتحكم في حياة البشر مثلا .. و هي أنظمة يمكن وضعها كتروس في تصور منظم عن الحياة البشرية كآلة كبيرة تعمل و تتحرك كترس في آلة أكبر و هكذا.
هذا التصور عن الوجود المكون من آلات حركية تعمل بالتداخل و التوازي هو أفضل و أدق و أكثر علمية من عقيدة مثل المادية الجدلية مثلا. فحتى بالنسبة للأنظمة العينية المنظورة (التي تتداخل و تؤسس للأنظمة الضمنية) فالفلسفة المادية لديها وجهة نظر قاصرة .. لأن تعبير “مادة” نفسه يعطي الإنطباع و يحمل معنى الوجود المصمت و العنصر النهائي المكون لبقية العناصر !! و هو شيء خاطئ بطبيعة الحال, فكل مادة هي ترس في آلة أكبر و هي نفسها آلة مكونة من تروس أصغر .. من اللابداية إلي اللانهاية, لذلك فالبناء على مفهوم “النظام” أفضل من البناء على مفهوم “المادة”.
فكل مادة يمكن إعتبارها ترس, هي جزء من نظام كما أنها تشكل نظاما في حد ذاتها. كوكب الأرض مثلا هو جزء من نظام متعدد الكواكب هو المجموعة الشمسية , و المجموعة الشمسية هي جزء من نظام متعدد المجموعات هو المجرة و المجرة هي جزء من نظام متعدد المجرات هو الكون .. و تطرح أحدث النظريات العلمية حقيقة لها إثباتات رياضية لكن لا دليل مادي عليها هي أن هذا الكون هو جزء من عالم متعدد الأكوان. و هذا الطرح برغم من الغرابة التي قد يوحي بها إلا انه يبدو منطقيا و متناسقا مع السياق المعرفي للعلم حتى الآن .. بل في الغالب لن يكون هو الحد النهائي للوجود برغم أنه إطار شديد الإتساع لعالمنا.
كل فرد بشري هو آلة حركية و جزء من آلة حركية هي الجنس البشري, و الجنس البشري جزء من آلة حركية هي ماكينة الحياة على كوكب الأرض. كل الكائنات الحية على كوكب الأرض سواء كانت بكتيريا أو نبات أو حيوان أو فطر أو سمكة أو حيوان أو غيره, ليس إلا جزئ دنا (DNA) ينسخ نفسه بشكل مستمر لكي يتجنب الموت .. و كما أن الفرد البشري لديه خلايا تموت و خلايا تولد بشكل مستمر فالآلة الحية على الأرض تعمل أساسا بنفس الطريقة.
النظام الديناميكي غير مثالي
كل نظام هو ابن لانظمة و والد لأنظمة .. نظامنا الكوني ابن للنظام العالمي و والد لأنظمة مجرية, و الأنظمة المجرية والدة الأنظمة الشمسية, و الأنظمة الشمسية والدة الأنظمة الكوكبية, و الانظمة الكوكبية والدة الأنظمة الحيوية (المعروف أن أغلب الكواكب عاقر لا تنجب) .. الخ. كل نظام من هذة الانظمة هو شبكة متداخلة من العناصر المترابطة المتفاعلة مع بعضها (لا يبدأ هذا بالذرة و مرورا بالقرد البشري و لا ينتهي بالمجرة) و يعتبر النظام معقدا كلما زادت العناصر و العلاقات المكونة له .. و يعتبر نظاما بسيطا كلما قلت هذة العناصر و العلاقات. و كل الأنظمة هي أنظمة مفتوحة, و إلا لما كان هناك مدخلات و مخرجات و عمليات داخلية و سلوك .. هي مفتوحة على وسطها و خاضعة تماما لتأثير كل الانظمة الموجودة فيه.
و كل الأنظمة ديناميكية (متحركة) لانها غير مستقرة و هي غير مستقرة لانها ليست مثالية بل بها نقص دائم يحاول النظام تعويضه و هو سبب حركتها و تفاعلها مع بقية العناصر الموجودة في بيئتها. الكون كله مثلا نشأ بسبب فارق كتلة طفيف بين المادة والمادة المضادة, و هو ما أدى الي إنتصار المادة على المادة المضادة و من ثم نشوء و تطور الكون بشكله الحالي .. فلو كان توزيع المادة و المادة المضادة متساويا بشكل مثالي لما نشأ هذا الكون كله. و كل هذة الأنواع من الكائنات الحية على الأرض أيضا لم تنشأ إلا لأن التكاثر الحيوي منذ الإنقسام الذاتي و حتى التزاوج الجنسي لم ينتج إلا نسخا غير متطابقة, نسخا غير مثالية .. و تراكم الفروق بين الأصل (الخلية الأولى) و النسخ (الأبناء و الأحفاد) هو ما صنع و يصنع كل هذا الإختلاف بين الكائنات الحية, و لو كانت الخلايا البدائية الأولى تنتج خلايا أخرى متطابقة معها بشكل مثالي لما ظهر أي تنوع أو إختلاف بين الكائنات الحية أبدا.
و بنفس الطريقة لا يكون أي نظام حيوي أو فيزيائي أو غيره مستقرا إلا بسبب نقص في تصميمه و حالته, و هذا النقص هو ما يجعل هذا النظام متحركا. فأي كائن حي مثلا لا يتحرك إلا بسبب شعوره بالنقص : جوع, عطش, برد, حر, خوف, ملل, فائض طاقة .. الخ, بحيث يقوم هذا الشعور بالنقص بدور الدافع للحركة بينما يقوم الهدف الذي يمكنه ان يقلل هذا النقص بشكل نسبي (الطعام أو الشراب أو الجنس أو المتعة أو المنزل .. الخ) بدور الحافز للحركة .. و لكن لو كان في حالة مثالية تامة و هو في مكانه لما تحرك و لما كان له أي سلوك من الأساس.
الغازات النبيلة مثلا (هيليوم، نيون، آرجون، كربتون، زينون، رادون) تعتبر غازات خاملة نسبيا فهي نادرا ما تدخل في تفاعل كيميائي و هذا لأن مدارات إلكتروناتها مكتملة وممتلئة بالإلكترونات .. بعكس أي عناصر أخرى في الجدول الدوري يكون لديها نقص أو فائض في عدد الاليكترونات. و لهذا أي عنصر يصبح مثاليا أو كاملا بأي شكل من الأشكال سيكون خاملا و سيفقد أي قدرة على الإحتياج و من ثم الحركة او التفاعل مع البيئة المحيطة .. و ساعتها سيتوقف النظام عن كونه نظاما او ديناميكيا فيكون عنصر خامل تماما لا يؤثر او يغير و لا يتأثر او يتغير بأي شكل من الأشكال, ثم يبدأ في الإنهيار و الفناء.
و الأنظمة لا تزداد كمالا أو كفاءة مع الوقت بل العكس, فالقانون الثاني للديناميكا الحرارية ينص على مبدأ أساسي يقول : تتزايد إنتروبيا أي نظام معزول مع الوقت و تميل الانتروبيا لكي تصل إلى نهاية عظمى سواء في النظام المعزول أو في الكون .. و هو ما يعني إمكانية قياس مرور الزمن بمعرفة تغير الإنتروبيا. و الإنتروبيا هنا يقصد بها الهدر أو التبديد أو قلة الكفاءة, و أي تغير يحدث تلقائيا في نظام فيزيائي معزول لا بد وأن يصحبه ازدياد في مقدار إنتروبيته. فتزايد الإنتروبيا و تدهور الكفاءة ليس قدرا إلا بالنسبة للأنظمة المعزولة فقط, اما الانظمة المفتوحة فمن الممكن أن تقل إنتروبيتها و تزداد كفاءتها.
لكن يفهم من هذا القانون أن النظام الفيزيائي يميل إلي التوازن داخليا و الإستقرار تلقائيا عن طريق تبديد الطاقة خارجيا و توزيعها المتساوي داخليا. فمثلا إذا كان لدينا قارورتين واحدة بها غاز والأخرى فارغة وبينهما صمام ، فعند فتح الصمام يبدأ الغاز يتوزع في القارورة الفارغة ويصل إلى حالة استقرار عندما تكون كثافة الغاز في القارورة اليمنى مساوية لكثافته في القارورة اليسرى .. و ليس من المحتمل إطلاقا أن يعود الغاز ويتجمع في إحدى القارورتين مهما طال الزمن : و لهذا نقول أن إنتروبيا الغاز زادت مع الزمن حتى وصلت إلى حالة التوازن.
يمكن إعادة صياغة هذا القانون بلغة أدبية كالتالي : كل نظام حركي (ديناميكي) معزول (لا تتغير حالته بسبب تأثيرات خارجية) يصيبه التعب و تقل كفاءته بمرور الوقت .. حتى يصل إلي حد معين فينهار و يموت هذا النظام. لكن في حالة أن هذا النظام تتحسن كفاءته بمرور الزمن .. فهذا يعني أنه سيصل إلي حد يقضي به على كل مشاكله و يصبح مثاليا و من ثم يتكلس و يموت أيضا (يتوقف عن الحركة و الحياة). و بالتالي فأي نظام إذا أراد أن يستمر موجودا و حيا سيحتاج إلي عجلة محددة للتطور و التحسن .. لأن الزيادة أو النقصان في الكفاءة سيقودانه إلي فناؤه ما لم يتطور إلي نظام آخر أكبر و أقدر على استيعاب و إحتمال النقص/الزيادة في النجاح/الفشل.
ثنائية الحركة النظامية
هناك سمات مشتركة بين كل الأنظمة الديناميكية (المعروفة) و هي سمات تبدو مرتبطة بشكل جوهري حتمي بوجود النظام نفسه, و من ضمن هذة السمات هو أن للنظام الحركي (الديناميكي) حركة خارجية و حركة داخلية. الحركة الخارجية تتمثل في الحركة الفيزيائية (مسافة و سرعة و عجلة) و النمو و التكيف و استهلاك الطاقة و إنتاجها, بينما الحركة الداخلية تتمثل في عمليتي بناء و هدم تتصارعان داخل النظام. ويمكن ملاحظة هذا في الأنظمة الحية على وجه الخصوص من خلال عمليات الاستقلاب أو الأيض أو التمثيل الغذائي Metabolism. فمن خلال عمليات الهدم Catabolism يتم تكسير المواد الغذائية الرئيسية سواء كانت كربوهيدرات أو بروتينات أو دهون خلال طرق مختلفة من التفاعلات الحيوية إلى جزيئات بسيطة وينتج عن ذلك الحصول على الطاقة, بينما تقوم عمليات البناء Anabolism بإستخدام الجزيئات البسيطة الناتجة من عملية الهدم كنواة لبناء مواد أكثر تعقيدا سواء كانت بروتينية أو أحماض نووية من خلال سلسلة من التفاعلات وذلك لبناء الأنسجة وتستهلك طاقة في تلك التفاعلات.
مثال 1 :
و يمكن تشبيه عمليات البناء و الهدم التي تحدث داخل الكائنات الحية بمدينة لها مساحة أرض محدد, و لتكن مثلا 100 كم2, لو ظلت عمليات البناء مستمرة بشكل أسرع أو اكبر من عمليات الهدم فسيأتي الوقت الذي تمتلئ فيه الأراضي بالمباني و لا يعود الإستمرار في عمليات البناء ممكنا إلا على حساب مباني أخرى موجودة بحيث يتم هدمها و البناء مكانها .. إلا لو قامت المدينة بالنمو و التوسع إلي الأراضي المحيطة فتصبح 120 كم2 مثلا. لكن في كل الأحوال لا يمكن البناء إلي ما لا نهاية في مساحة محدودة او كيان محدود لانه سيصل حتما إلي حد التشبع فيتوقف البناء تلقائيا. و بنفس الطريقة لا تستمر الانواع الحية إلا بالولادة (عمليات بناء) و الموت (عمليات هدم) فإن ظلت معدلات الولادة اكبر من الموت ستزيد الكثافة السكانية إلي حد التشبع و بالتالي تستحيل الولادة ما لم يمت بعض الناس .. و هكذا.
في كل الانظمة الديناميكية يجب أن تكون هناك عمليات هدم و عمليات بناء : و لو زادت عمليات البناء على الهدم فلا مفر من التشبع (توقف البناء) أو النمو, و لو زادت عمليات الهدم على عمليات البناء فلا مفر من الموت .. و الفارق ان نمو النظام محدود بحدود النظام نفسها لكن لا حدود للهدم إلا الفناء. لكن بدون حياة و موت, بناء و هدم, موجب و سالب, واحد و صفر, صحيح و خاطئ, حق و باطل, مشكلة و حل .. فلا وجود لنظام حركي ديناميكي من أي نوع. و قد عبر عن هذا المعنى كارل ماركس عن طريق أول قوانين المادية الجدلية : قانون وحدة و صراع المتناقضات.
لكن هذا يقودنا إلي مشكلة صعبة ..
الجنس البشري كنظام ديناميكي يحتاج إلي قدر معين من إنعدام الكفاءة لكي يظل يعمل و يتطور. فمثلا تطور الطب و الوفرة الإقتصادية للجنس البشري قياسا على الأزمان الماضية جعل نسبة المواليد أكبر كثيرا من نسبة الوفيات مما أدى إلي زيادة سكانية مطردة في العالم بوجه عام. هناك زيادة كبيرة في نسبة الشيوخ المعمرين نسبة إلي عدد السكان في العالم, إرتفاع الرعاية الصحية قلل كثيرا من نسب الوفيات .. مما يؤدي حاليا لإرتفاع معدلات البطالة و تراجع مستوى المعيشة. الآن تتقدم العلوم الطبية بإطراد و هناك أبحاث و تجارب أقرب من أي وقت مضى لتحقيق الخلود للفرد البشري أو على الأقل مد الأعمار البشري إلي عدة مئات من السنين بدلا من متوسط يبلغ 80 عاما في زمننا الحالي.
هنا سيكون البناء (ولادة المزيد من الأطفال) لا يزال يعمل, بينما الهدم (الموت) متعطل أو أبطأ من البناء .. و هو ما سيجبر الجنس البشري على حل من إثنين : إما أن يمتنع الرعاية الصحية تماما عن الناس او على الأقل عن معظمهم, و إما ان يمتنع الناس من إنجاب المزيد من الأطفال .. هناك حل ثالث هو ان يجد الجنس البشري أراضي جديدة لكي يملأها بزيادته السكانية حتى تمتلأ هذة الأرض الجديدة و يعود أحد الحلين السابقين. إزدياد كفاءة النظام الطبي في دعم الحياة البشرية هنا أدى و يؤدي إلي مشاكل جوهرية و كارثية بالنسبة للجنس البشري.
مثال 2 :
النظام الإقتصادي الرأسمالي يعتمد على مشكلتان يسعى لحلهما : الندرة المادية و حافز الربح. طبعا الرأسمالية موجودة و تعمل منذ ألفي عام تقريبا حين تم إختراع النقود المعدنية و غير الورقية, و الإعتماد عليها في التبادل السلعي و الخدمي. لكن بسبب التطور العلمي و التقني و الصناعي في العصر الحديث أمكن تحقيق وفرة مادية كبيرة لشعوب كثيرة و يمكن تحقيق وفرة و كفاية لكل شعوب الأرض بواسطة التقنيات العلمية الحالية فقط. لكن كلما تم تقليل و محاصرة الندرة المادية أصبح الربح أقل تحفيزا للإنسان, و من ثم تقل حركة الإقتصاد و يبدأ الإقتصاد في الركود.
لهذا لجأ كبار الرأسماليين منذ الركود الكبير عام 1930م إلي تكنيك جديد للحفاظ على الندرة الإقتصادية عن طريق الإعتماد على علوم النفس التي وضع سيجموند فرويد حجر أساسها .. و هو أن يتم حجب الموارد المادية عن بعض الناس بشكل حتمي من خلال النظام الرأسمالي من ناحية, و من ناحية أخرى يتم خلق ندرة إقتصادية وهمية أساسها الوهم التسويقي بالأساليب العلمية النفسية في التلاعب بالعقول من أجل إيهام الناس أنهم يحتاجون سلع لا يحتاجونها. و طالما ان الموارد محجوبة دائما عن بعض الناس و طالما أن هناك ندرة وهمية في أذهان الناس فقط و ليس ندرة مادية حقيقية يمكن إشباعها و القضاء عليها .. فلقد تم إصلاح الخلل في النظام الراسمالي و عادت العجلة الرأسمالية للدوران مرة أخرى.
لكن لو لم تجد الماكينة الرأسمالية هذة الوسيلة المخادعة الكذوبة في خلق ندرة وهمية أو مصطنعة للحفاظ على حافز الربح و من ثم النمو الإقتصادي .. لتوقفت العجلة فعلا عن الدوران. و هذا يقودنا إلي معضلة حتمية : و هي أن العلم و التقنيات العلمية يمنهم بالفعل تحويل الأرض إلي جنة و المجتمع البشري إلي يوتوبيا مثالية. لكن المثالية معناها الموت, لأن لا أحد يعمل في الجنة و لا أحد يبدع حلول في يوتوبيا بلا مشاكل. لذلك فالماكينة الإقتصادية البشرية تحتاج إلي ندرة غير مادية لكي تسعى لإشباعها, لأن الندرة المادية مهما كانت فهي محدودة و من السهل إشباعها إذا تخلينا عن الخداع و لعبة الكراسي الموسيقية. نحن نحتاج إلي مشكلة حقيقية نسعى لحلها لأن المشكلة المادية من السهل حلها و نحن نتلكأ في حلها خوفا من الوفرة التي ستؤدي إلي الركود و الموات. و هنا تبدو المشكلة المعرفية مشكلة حقيقية فعلا في عالم بلا حدود, لان إذا كانت البطن محدودة و يسهل ملأها فالعالم بلا حدود و يستحيل إستكشافه كله.
تطور الأنظمة
طالما أن عالمنا مكون كله من أنظمة ديناميكية متحركة, فلا يوجد لأي نظام إلا ثلاث خيارات لا رابع لهم : الخيار الأول هو أن يموت النظام بعد فترة تاركا مكانه لنظام آخر لا يزال يعمل, الخيار الثاني هو أن يحتفظ النظام بحركة ثابتة لا تتغير بالزيادة او النقصان كبندول الساعة بحيث لا تزيد عن حدها فيموت النظام أو تنقص عن حدها فيموت النظام, الخيار الثالث هو أن يتطور النظام بشكل ما, أن يكبر حجمه او يتغير نوع غذاؤه أو تتطور صفاته بأي شكل من الأشكال .. فإما أن يتحرك بعجلة متزايدة (يتطور) و إما أن يتحرك بعجلة ثابتة (يستقر) و إما أن يموت (يتوقف). و أفضل أنظمة يمكن الإشارة إليها لتوضيح هذة الحالات الثلاث هما نظامين : النظام الكوني و النظام الحيوي على الأرض.
ففي النظام الكوني و بغضون 100 ثانية من الإنفجار الكبير بدأت طاقة الكون الخام في البرودة فتكونت المادة في شكل عدد لا يحصى من الجسيمات دون الذرية و كانت أول مادة وجدت على الإطلاق. نصف هذة الجسيمات كانت مصنوعة من مادة هي نفس الشيء الذي نحن مصنوعون منه أما النصف الأخر فكان مصنوعا من شيء يسمى المادة المضادة .. و عندما تلتقي المادة و المادة المضادة تفنيان بعضهما مطلقتين وميضا من الطاقة. و بسبب إنعدام المثالية في توزيع المادة و المادة المضادة, إنتصرت المادة على المادة المضادة حين نجى جزء من مليار من المادة. تلك البقايا من المادة هي ما شكلت الكون الحالي الذي نعيش فيه.
بعد آلاف السنين من الإنفجار الكبير كان معظم الكون عبارة عن غاز الهيدروجين و بفعل الجاذبية المعتادة تجمع الهيدروجين ببطء في شكل غيوم, الهيدروجين هو أبسط الغازات لكن له خاصية مميزة إنه مصدر هائل للطاقة, لذلك فحين ضغطت الجاذبية سحب الهيدروجين على مر السنين إلي أن أصبح الغاز في المركز ساخنا كفاية لحدوث الإندماج النووي .. تطور بعض الهيدروجين إلي مادة أثقل هي الهيليوم و ليحول بعض المادة إلي طاقة و بذلك ينفجر أول نجم إلي الحياة.
هكذا نشأ الحديد و هكذا نشأت كل المواد في الكون, طفرات تحدث بشكل عشوائي لبعض المواد الأولية الكونية عن طريق الإنتخاب الطبيعي .. البقاء لمن هو أصلح للبقاء. فبعض الهيدروجين مات (تحول إلي طاقة لأن كل نظام يموت يتحول إلي أنظمة أخرى لكنه مادته لا تفني أبدا) و بعض الهيدروجين ظل على حاله و بعض الهيدروجين تطور إلي كائنات أخرى. و بوجه عام فكل المواد الموجودة في الكون حاليا نشأت عن طريق طفرات عشوائية نتيجة للإنتخاب الطبيعي الذي يوجه التفاعل بين المواد و الطاقات لكي ينتج عنها مواد و طاقات أكثر تعقيدا و تطورا. نظام ديناميكي يعمل بطريقة تقليدية جدا من خلال موت بعض عناصره و إستقرار بعض آخر و تطور البعض الثالث.
و في النظام الحيوي على كوكب الأرض أيضا, بدأت الحياة من خلال نشوء خلايا بسيطة قادرة على الإنقسام الذاتي لنسخ نفسها تعرف بوحيدات الخلية منذ حوالي أربع مليارات عام, و قد تطورت من مواد كيميائية غير حية هي نتاج 13.7 مليار سنة من التطور الكوني للمواد. ثم نتيجة النسخ اللامتطابق عن طريق الإنقسام الذاتي و إختيار الطبيعة للنسخ الأقدر على التكيف مع ظروف الحياة (الإنتخاب الطبيعي) نشأت خلايا قادرة على البناء الضوئي ثم كائنات متعددة الخلايا .. و هكذا. فبعض المواد الحية تنقرض و بعضها يظل على حاله و بعضها يتطور إلي حالة جديدة, و كما حدث في التطور الكوني حدث في التطور الحيوي .. كلها أنظمة ديناميكية تنقرض أو تستقر أو تطور و تزداد تعقيدا (وبالتالي تزداد الإنتروبي) بمرور الوقت, في عالم آلي حركي يسير على قضبانه غير عابئ بشيء ولا يتوقف أبدا.
الخاتمة
أهمية و روعة النظر إلي العالم كأنظمة حركية متداخلة متطورة هو أولا: متعة الفهم العلمي الشامل لهذا العالم بشكل موضوعي حقيقي بدلا من الجمود العقائدي و التخريف الديني, و ثانيا: فهم سبب حتمية الحركة و التطور العلمي الذي يلاحق عالم هو في جوهره متحرك متطور .. فلا يمكن أبدا وصف متوالية حسابية بدالة هندسية و لا يمكن وصف متوالية هندسية بدالة حسابية : العالم المتحرك المتطور بمتواليات حسابية و هندسية يعتاد إلي علم متحرك متطور يتطور معرفيا و تقنيا بمتواليات حسابية و هندسية لكي يجاري هذا العالم. اما الجمود العقائدي و التخريف الديني فهم يعتمدون على أفكار ثابتة مريحة مع إن عالمنا متحرك متطور !!
أما ثالثا: فهو أن معرفة و فهم العالم من خلال العلوم النظامية سيجعل الإنسان قادرا على التحكم في انظمته التي تتحكم فيه من خلال علوم التحكم Cybernetics و العلوم التطبيقية Applied Sciences و التقنيات المتطورة Technology. لأن التفكير النظامي معناه فهم نظامي للعالم و من ثم حلول نظامية فعالة للمشاكل النظامية في عالمنا النظامي, و بالنسبة لأي مشكلة فإن عدم فهم الأساس النظامي للمشكلة ينتج حلول وهمية أو حتى حلول سطحية تعالج العرض فقط لا المرض .. حلول تفتقد الفعالية و الكفاءة التي يتميز بها العلم النظامي المتحرك المتطور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق