يعتقد فرويد (1856-1939) مثل كل مؤسسي علم النفس الحديث بأن الدين ما هو إلا مرض نفسي و يفسر نشأة الأديان باعراض نفسية خالصة نافيا أي أساس موضوعي للأديان. يظهر هذا جليا في كتابيه ( قلق في الحضارة ) و ( مستقبل وهم ) وخصوصاً هذا الأخير ، والذي خصصه للتعريف بالأسباب النفسية التي أدت لنشأة الدين في حياة الناس.
يقول فرويد إن حياتنا كما هي مفروضة علينا ، ثقيلة الوطء ، وتغل أعناقنا بكثرة كثيرة من المشاق والخيبات والمهام الكأداء . وحتى نستطيع أن نحتملها فلا غنى لنا عن المسكنات, و أنواع المسكنات ثلاثة : أولها أشياء تلهينا عن الحياة و هي تتيح لنا أن نعتبر بؤسنا هيناً أمره ، وثانيها إشباعات بديلة تخفض من وطأة الحياة ، و ثالثها مخدرات تفقدنا الإحساس بالحياة, وليس لنا عن واحدة على الأقل من هذه الوسائل غناء. أما الدين فهو هذا النوع الثالث من المسكنات ألا و هو المخدر. و يرى فرويد أن هذا الواقع المر لا نستطيع مواجهته فلذلك إضطرت نفوسنا لإختراع الدين كميكانيزم لقطع الصلة بالواقع و توشيهة, و هو ما يجعل الدين هذيان جماعي فيقول : [ ثمة طريقة أخرى أكثر جذرية و لها غاية أبعد ، طريقة ترى في الواقع العدو الأوحد ، ينبوع كل ألم . فبما أن الواقع يجعل حياتنا مستحيلة لا تطاق ، فلا بد من قطع كل صلة به ، إذا كنا نحرص على السعادة بصورة من الصور ... متى ما سعت الكائنات البشرية بأعداد كبيرة إلى تأمين السعادة لنفسها وإلى الاحتماء من الألم بواسطة تشويه خرافي للواقع عن طريق الدين . فأديان البشرية يجب أن تعتبر هذيانات جماعية من هذا النوع ].
يعتقد فرويد أن الدين هذيان وأنه يشوه الواقع ويزجر العقل ولا يحقق السعادة التي يبتغيها الإنسان فيقول : [ إن الدين يضر بلعبة التكيف والانتخاب تلك ، إذ يفرض على الجميع ، وعلى نسق واحد ، طرقه الخاصة للوصول إلى السعادة وللفوز بالمناعة ضد الألم . وتقوم خطته على تخفيض قيمة الحياة وعلى تشويه صورة العالم الواقعي تشويهاً بالغاً ، وهذا نهج يتخذ مسلمه له زجر العقل وتخويفه . وبهذا الثمن يفلح الدين ، بإلباسه أتباعه بالقوة ثوب طفولة نفسية وبزجهم جميعاً في هذيان جماعي[. و يرى فرويد أن الشعور بالذنب الذي جاءت به الأديان هو مشكلة الحضارة و يسبب نقص في شعورنا بالسعادة فيقول : [ كان قصدنا رغم كل شيء أن نصور الشعور بالذنب على أنه المشكلة الرئيسية لتطور الحضارة ، وأن نبين ، فضلاً عن ذلك ، لماذا يتوجب علينا دفع فاتورة تقدم هذه الأخيرة بنقصان في السعادة ناجم عن تعزيز ذلك الشعور ].
أما التفسير النفسي التحليلي لتكوين الأديان لدى فرويد فنجده مربوطا بمرحلة الطفولة وحاجة الطفل للحماية مما يؤدي إلى وجود الآلهة ، حيث يقول : [ التعليل النفسي التحليلي لتكوين الأديان هو هو نفسه ، كما هو متوقع ، المساهمة الطفلية في تعليله الظاهر ... حين يتبين الطفل ، وهو يشب ويترعرع ، أنه مقضى عليه بأن يبقى أبد حياته طفلاً ، وأنه لن يكون في مقدوره أبداً أن يستغني عن الحماية من القوى العليا والمجهولة ، يضفي عندئذ على هذه القوى قسمات وجه الأب ، ويبتدع لنفسه آلهة ، آلهة يخشى جانبها ويسعى إلى أن يحظى بعطفها ويعزو إليها في الوقت نفسه مهمة حمايته . وهكذا يتفق حنين الطفل إلى الأب مع ما يحس به من حاجة إلى حماية بحكم الضعف البشري ؛ كما أن رد فعل الطفل الدفاعي حيال شعور الضيق يتفق ورد فعل الراشد حيال الشعور بالضيق الذي يخالجه بدوره ، والذي يتولد عنه الدين وسماته المميزة ].
و يؤكد فرويد على أن الأديان توهمات وأن سبب وجودها هو الخوف الطفلي والقلق الإنساني إزاء أخطار الحياة ، فيقول : [ حين نوجه أنظارنا نحو التكوين النفسي للأفكار الدينية . فهذه الأفكار التي تطرح نفسها على أنها معتقدات ، ليست خلاصة التجربة أو النتيجة النهائية للتأمل والتفكير ، إنما هي توهمات ، تحقيق لأقدم رغبات البشرية وأقواها وأشدها إلحاحاً . وسر قوتها هو قوة هذه الرغبات .
وبالأصل ، نحن نعلم ذلك : فالإحساس المرعب بالضائقة الطفلية أيقظ الحاجة إلى الحماية والحماية بالحب ، وهي حاجة لباها الأب . وإدراك الإنسان أن هذه الضائقة تدوم الحياة كلها جعله يتشبث بأب ، أب أعظم قوة وأشد بأساً هذه المرة . فالقلق الإنساني إزاء أخطار الحياة يسكن ويهدأ لدى التفكير بالسلطان الرفيق العطوف للعناية الإلهية ، كما أن إرساء أسس نظام أخلاقي يكفل تلبية مقتضيات العدالة ، هذه المقتضيات التي لبثت في غالب الأحيان غير متحققة في الحضارات الإنسانية ؛ ثم إن إطالة الحياة الأرضية بحياة مستقبلية تقدم إطار الزمان والمكان الذي ستحقق فيه تلك الرغبات ].
و يربط فرويد بين التدين وبين الغرور و العنجهية ، فيقول : [ لايزال النقاد يصرون على إطلاق صفة (( التدين العميق )) على كل إنسان يقر بما يراوده من شعور بتفاهة الإنسان وبالعجز البشري في مواجهة الكون ، وهذا بالرغم من أن جوهر التدين لا يقوم على ذلك الشعور ، وإنما بالأحرى على المسعى الذي يعقبه ويتفرع منه ، أي رد فعل الإنسان على ذلك الشعور في محاولة لاتقائه والتحصن ضده . أما من لا يتوغل إلى أبعد من ذلك ، أما من يسلم بكل تواضع بالدور الضئيل الذي يلعبه الإنسان في فسيح الكون ، فهو بالأحرى لا متدين بأصدق معاني الكلمة ].
و يرى فرويد أن الدين لم يحقق السعادة والأخلاق التي يبحث عنها الإنسان ، فيقول : [ فمن المشكوك فيه أن يكون البشر قد عرفوا في مجملهم ، في العهد الذي كان الدين يسود فيه بلا منازع ، سعادة أكبر من تلك التي يعرفونها اليوم ؛ وعلى كل حال ما كانوا ، بالتأكيد ، أكثر أخلاقية ]. و يشبه فرويد دور الدين في حياة الإنسان بالدور الذي تقوم به المنبهات والمسكرات للإنسان عند تناوله لهما ، فيقول : [ مفعول العزاء والسلوان الذي يقدمه الدين للإنسان يمكن المقايسة بينه وبين مفعول المنومات : وما يجري الآن في أمريكا أسطع مثال على ذلك .
فهم يريدون هناك أن يحرموا الناس - تحت تأثير سيطرة النساء بالطبع - من كل منبه ومن كل شراب مسكر ، ويعلفونهم بالمقابل ورعاْ وتقوى ]. و يؤكد فرويد أن الإنسان يمكن أن يحتمل مشاق الحياة عندما يقطع رجاءه بالغيب ، فيقول : [ ولاشك في أن الإنسان سيتوصل ، يوم يقطع رجاءه من عالم الغيب أو يوم يركز كل طاقاته المحررة على الحياة الأرضية ، إلى أن يجعل الحياة قابلة للاحتمال من قبل الجميع ].
ثم يعقد فرويد مقارنة بين دور الدين ودور العقل في تحقيق الأخوة الإنسانية وتقليل أو تناقص الألم الذي يتعرض له الإنسان ، ويرجح العقل على الدين في هذه المقارنة ، فيقول : [ لما كانت أولوية العقل ستنشد في أرجح الظن نفس الأهداف التي يفترض في إلهكم أن يبلغكم إياها : الأخوة الإنسانية وتناقص الألم ... أنتم تريدون أن يبدأ الهناء بعد الموت مباشرة ، وتطلبون إليه أن يحقق المستحيل ، ولا تريدون أن تتخلوا عن مزاعم الفرد وادعاءاته . أما إلهنا نحن ، العقل ، فلن يحقق من هذه الرغائب إلاّ بقدر ما ستسمح به الطبيعة الخارجية ، وسيتم ذلك رويداً رويداً ، وفي مستقبل غير منظور ، وبالنسبة إلى أبناء هم غير أبنائنا .
أما نحن الذين نشكو مر الشكوى من الحياة فلا يعدنا بأي تعويض . ولن يكون هناك مناص من التخلي ، على الطريق التي تفضي إلى ذلك الهدف القصي، عن مذاهبكم الدينية ، ولن يكون من المهم عندئذ أن تفشل المحاولات الأولى أو ألاّ تكتب الحياة للتشكيلات البديلة الأولى . وأنتم تعلمون السبب : فما من شيء يستطيع على المدى الطويل أن يقاوم العقل والتجربة ، وتناقض الدين مع كليهما أمر لا يحتاج إلى بيان ].
و في النهاية يؤكد فرويد أن الدين عصاب البشرية الوسواسي العام ، حيث قال : [ يمكن القول بأن الدين هو عصاب البشرية الوسواسي العام ، وبأنه ينبثق ، مثله مثل عصاب الطفل ، عن عقدة أوديب، عن علاقات الطفل بالأب . وانطلاقاً من هذه التصورات ، يمكننا أن نتوقع أن يتم العزوف عن الدين عبر سيرورة النمو المحتومة التي لا راد لها ].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق