ماري أوبريان : دعني أسألك عن شيء, لماذا أنت حي ؟
جون بريستون : أنا حي (يتردد في الكلام) .. أنا أعيش, لحماية هذا المجتمع العظيم, لأخدم ليبريا.
ماري أوبريان : إنه منطق دائري .. أنت موجود حتى تكمل وجودك. ما الفائدة من ذلك ؟
جون بريستون : و ما الفائدة من وجودك أنتِ ؟
ماري أوبريان : لكي أشعر. لأنك لم تفعلها فلن تعرفها, لكنها مهمة كالتنفس. وبدونها، بدون الحب, بدون الغضب، بدون الحزن, فأنت مجرد آلة .. أنفاسك عبارة عن ساعة تدق.
جون بريستون : أنا حي (يتردد في الكلام) .. أنا أعيش, لحماية هذا المجتمع العظيم, لأخدم ليبريا.
ماري أوبريان : إنه منطق دائري .. أنت موجود حتى تكمل وجودك. ما الفائدة من ذلك ؟
جون بريستون : و ما الفائدة من وجودك أنتِ ؟
ماري أوبريان : لكي أشعر. لأنك لم تفعلها فلن تعرفها, لكنها مهمة كالتنفس. وبدونها، بدون الحب, بدون الغضب، بدون الحزن, فأنت مجرد آلة .. أنفاسك عبارة عن ساعة تدق.
Equilibrium (التوازن) هو فيلم أمريكي شهير, إنتاج عام 2002, بطولة النجم: كريستيان بال Christian Bale (جون بريستون) و النجمة إميلي واتسون Emily Watson (ماري أوبريان) و نجوم آخرين. و الفيلم يحكي عن نشوب حرب عالمية ثالثة بسبب ثورات غضب أو تصرفات طائشة من الناس, مما جعل نظاما جديدا ينشأ على الأرض بعد الحرب اسمه “مجتمع ليبريا” يتبنى حياة بلا مشاعر ولا أحاسيس, و يمد الناس بكبسولات و أدوية بشكل مستمر تمنعهم من الشعور و الإحساس نهائيا. و هذا المجتمع يتبنى نظاما بوليسيا لإصطياد الناس التي تضبط متلبسة بالشعور و التي لا تتعاطى أدوية منع الإحساس فتحب و تكره و تتذوق الفنون و ما الي ذلك. جون بريستون (كريستيان بال) كان أحد أمهر منفذي هذة القوانين و حماية هذا النظام, و أحد أمهر من يستطيعوا إكتشاف المشاعر و إصطياد البشر الذين يشعرون و يخفون مشاعرهم. جون ذات مرة إصطاد فتاة اسمها ماري أوبريان (إيميلي واتسون) و أثناء استجوابها دار بينهم الحوار السابق.
و الغريب في هذا الحوار هو أن يتم الدفاع عن المشاعر و الأحاسيس بكل شخصانيتها و حرارتها و إنفلاتها عن طريق حجج عقلية منطقية هي بطبيعة الحال باردة و موضوعية, و من المضحك ان تهاجم هذة الفتاة الجميلة الفائرة الأحاسيس دافع “جون بريستون” في العيش من أجل المجتمع بإستخدام العقل و المنطق على أساس أن هذا المنطق دائري. منطق جون بريستون هو بالفعل منطق دائري, كثعبان يلتهم ذيله .. لكن منطق ماري أوبريان هو أيضا منطق دائري, كثعبان يلتهم ذيله أيضا :فالإثنان مخطئين و مغالطين بكل بساطة, لكن بإستخدام دوائر مختلفة.
الإستدلال الدائري
الإستدلال الدائري أو مغالطة الإستدلال الدائري (Circular Reasoning) يتم ارتكابها حيث يُفترض شيء ما تتوقف صحته على صحة النتيجة، أي لايمكن البرهنة عليه إلا بالنتيجة. وهي تسير على النحو التالي:
دعوى (أ) صحيحة لأن دعوى (ب) صحيحة.
دعوى (ب) صحيحة، لأن دعوى (أ) صحيحة.
دعوى (ب) صحيحة، لأن دعوى (أ) صحيحة.
و أشهر مثال على سفسطة و مغالطة الإستدلال الدائري هو منطق المؤمنين بالكتب المقدسة ..
- مؤمن : يجب أن يكون هنالك إله.
- ملحد : ولماذا ؟
- مؤمن : لأن القرآن يقول هذا.
- ملحد : ولماذا يجب أن يكون القرآن صادقا ؟
- مؤمن : لأن القرآن هو كلام الله !!!!!!
فنحن أمام استدلال تعتمد فيه صحة الدعوى، على دليل ما يعتمد على الدعوى ذاتها التي يُفترض أن نبرهن عليها .. وهكذا تكون دائرة مغلقة. وهذا الاستدلال الدائري يعتبر مغالطة لأنه لايقدم لنا دليلاً خارجيا مستقلاً متفق عليه في صحة الدعوى ذاتها، حيث يفشل في ربط ماهو غير مقبول (النتيجة) ، بما هو مقبول ابتداء (المقدمات).
و منطق جون بربيستون هو مغالطة منطقية دائرية فعلا لأنه كالتالي ..
- الدعوى أ : أنا أعيش لكي أخدم ليبريا.
- الدعوى ب : ليبريا قائمة لكي تخدم أفرادها.
النتيجة : أعيش من أجل ليبريا القائمة من أجلي أنا الحي من أجل ليبريا القائمة من أجلي .. الخ, إذن المنطق دائري فعلا.
منطق ماري أوبريان هو أيضا مغالطة دائرية لأنه كالتالي.
- الدعوى أ : أنا أعيش لكي أشعر.
- الدعوى ب : من لا يشعر لا يعيش, بل يعتبر مثل ساعة تدق.
النتيجة : الشعور هو الحياة و هو نفسه السبب للحياة, بمعنى أن الحياة هي السبب للحياة, إذن المنطق دائري أيضا.
الدوافع السلوكية
لكي يمكن الإجابة على السؤال المهم “لماذا يجب أن نحيا ؟” نحتاج أن نعرف أولا, لماذا نحن احياء أصلا .. أو لماذا نحن أحياء فعلا. يعني ما هي الدوافع السلوكية عند الإنسان و التي تجعله يستمر في الحياة ؟ ما الذي يجعلنا نقوم بأي عمل أو نفعل أي شيء ؟ ما الذي يجعلنا نتحرك ؟ ما الذي يجعلنا نصحو من النوم ؟ ما الذي يجعلنا نذهب إلي العمل ؟ ما الذي يجعلنا نأكل ؟ ما الذي يجعلنا نشرب ؟ ما الذي يجعلنا نمارس الجنس ؟ ما الذي يجعلنا نشاهد التليفزيون ؟ .. بإختصار, ما الذي يجعلنا نسعى لأي شيء أو نحقق أي شيء ؟!
و إجابة هذة الأسئلة تستدعي فهم جيد و موضوعي و علمي لما هو الإنسان في الحقيقة عن طريق علم النفس و علم الإجتماع و نظرية التطور ..
فالإنسان هو مجرد آلة .. آلة عادية, آلة في عالم مكون بالكامل من آلات, أنظمة ديناميكية متداخلة تعمل كتروس الآلة بإعتماد على بعضها البعض و بتأثير في بعضها البعض. الإنسان هو مجرد آلة بيو-كيميائية نفس-إجتماعية ذكية تعمل بطريقة ذاتية أوتوماتيكية و ستموت حين تتعطل هذة الآلة عطلا يجعلها تتوقف عن العمل و من ثم تتفكك و تتحلل هذة الآلة لتعود للإندماج في بقية الأنظمة الطبيعية من تربة و كائنات حية دقيقة و غيره. بلا روح ولا حرية و لا حياة بعد الموت و لا معجزات و لا آلهة و لا شياطين و لا كائنات مخفية و لا أي شيء خارق للطبيعة ولا أي حيلة نفسية دفاعية تمنع الإنسان من مواجهة حقيقته بأي شكل من الأشكال. فالقرد البشري هو مجرد نظام كأي نظام آخر, نظام بيولوجي أو آلة حية ككل الآلات الحية التي تعمل في الطبيعة .. آلة نشأت عن طريق التطور البيولوجي بواسطة الإنتخاب الطبيعي (البقاء لمن هو أصلح للبقاء).
و الإنسان (هذة الآلة البيوكيميائية) تتحرك نوعين من الحركة ..
- حركة داخلية لاإرادية : مثل التنفس و الهضم و الدورة الدموية و ضربات القلب .. الخ, و هذة لا سيطرة للإنسان عليها في أغلب الأحيان. بالطبع يمكن التحكم فيها بإستخدام أدوية و أدوات خارجية .. او حتى بإستخدام تقنيات رياضية مثل اليوجا, لكن بدون هذة التدخلات الإستثنائية فهذة الحركة الداخلية مستمرة بشكل تلقائي آلي تماما و بلا أي تدخل واعي أو إرادي من الإنسان.
- حركة خارجية إرادية : و هذة الحركة تنقسم إلي ثلاثة أنواع تصدر عن ثلاثة أشخاص (أقانيم Hypostasis) سماهم سيجموند فرويد ..
1- الهو Id (الغريزة) : و هو مصدر الدوافع التلقائية الطبيعية و السلوك الإفتراضي الحيواني, مثل غريزة البقاء و غريزة الجوع و الغريزة الجنسية و غريزة الأمومة .. الخ.
2- الأنا Ego (النفسية) : و هي مصدر الدوافع النفسية العاطفية و السلوك الإجتماعي الشعوري, مثل التزين و التأنق و التدين و الإنتماء و الضمير و النشاط الإجتماعي بشكل عام.
3- الأنا الأعلى Super-Ego (العقل) : و هي مصدر الدوافع العقلانية العملية و السلوك الواعي الأخلاقي, مثل القراءة و التعلم و البحث و الإستكشاف و التجريب.
كل شخص من هؤلاء الثلاثة لديه سمات و خصائص و طباع مستقلة عن الشخصين الآخرين و هو ما ينتج عنه تضارب و تردد الإنسان في سلوكه و إتخاذ قراراته. فكل شخص من هؤلاء الثلاثة يعمل بنظام ثنائي يشبه لغة الآلة الخاصة بالكمبيوتر. و لمن لا يعلم, نظام العد الثنائي Binary Numeral System هو نظام عد ذو رقم أساس 2، يستخدم لتمثيل قيم عددية باستخدام رمزين هما 0 و 1. كما يمكن استخدام أي رمزين أو حالتين مثل (0 و 1) أو (صح و خطأ) أو (تشغيل و إطفاء) من أجل إرسال رسائل عبر مسافات .. بسبب سهولة تنفيذه مباشرةً في البوابات المنطقية والإلكترونيات الرقمية فإن نظام العد الثنائي مستخدم عملياً في كل الحواسب الحديثة. و هذا النظام الثنائي يعمل به كل شخص من الأشخاص الذاتية الثلاثة المكونة للإنسان ..
- الغريزة : هي الإحتياج الأقوى عادة و تعمل بواسطة ثنائية
(اللذة / الألم : Pleasure \ Pain). - النفسية : هي متوسطة القوة و تعمل بواسطة ثنائية
(العظمة / الدونية : Superiority \ Inferiority). - العقل : هو الأضعف غالبا و يعمل بواسطة ثنائية
(الحق / الباطل : Truth \ Falsity).
الناس مختلفون
كل الناس تتنفس الأوكسجين و تشرب المياة و تنام و تتحرك, و كل الناس لديها غرائز و نفسيات و عقول .. لكن الناس في هذا الإطار تختلف إختلافا حادا و واسعا و غريبا في أحيان كثيرة. فقوة و حضور كل شخص من الأشخاص الثلاثة (العقل و النفسية و الغريزة) تختلف من إنسان إلي آخر. و لقياس الفكرة قياسا نظريا مجازيا, سنفترض أن الوحدة الواحدة من العقل هي (س) و الوحدة الواحدة من النفسية هي (ص) و الوحدة الواحدة من الغريزة هي (ك) :
فيكون حاصل ضرب 15 س (و) 25 ص (و) 35 ك = نموذجا لإنسان.
كما ان حاصل ضرب 75 س (و) 45 ص (و) 30 ك = نموذج لإنسان آخر.
الناس تختلف في مواهبها و قدراتها و لا يوجد أي عدل في ذلك, يعني ليس شرطا حتى أن يكون أحد الناس محدود الذكاء لكنه يتميز بمواهب أو قدرات أو إمتيازات أخرى, لا .. لو كانت أنواع و مقادير المواهب و القدرات الموروثة توزع بعدل بين البشر لكانت المواهب و القدرات الموروثة توزع بعدل بين الكائنات الحية أيضا. لكننا نجد دودة بليدة لا تستطيع إلا أن تتكيف مع متطلباتها للحياة فتعيش بالكاد, و حيوان آخر (النسر مثلا) يستطيع الطيران عاليا و الصيد و حاد البصر و يعيش طويلا و غيره .. الطبيعة ليست عادلة او منصفة باي حال و هذا يبدو واضحا في تنوع و تدرج الكائنات الحية و من ضمنها الكائنات البشرية. و بالتالي فحتى القرود البشرية يمكن تصنيفها إلي ثلاثة أجناس متمايزة و مختلفة إختلافا شديدا في معظم الاحيان ..
1- الإنسان الغرائزي Homo Libidinosa: حين تكون نسبة العقل للنفسيه للغريزة على التوالي 2 : 3 : 5 مثلا, المهم أن تكون الغريزة هي أقوى ما فيه أيا كان نسبتها إلي بقية الأشخاص بداخله. هذا الإنسان يستجيب و يسلك في الغالب بواسطة المعايير الغريزية للذة و الألم, بمعنى أنه يخضع للمال و الإغراءات كما يخضع للسلاح و العنف, للجنة و للنار. فهو لن يقتنع عن طريق الحوار العقلاني, و لن يستجيب في الغالب عن طريق إستثارة عواطفة الإنسانية .. و لكنه سيقبل الرشوة و المكافأة و سيخضع للظلم و البطش. و هذة النوعية يمثلها غالبا 70% من الجنس البشري.
2- الإنسان النفساني Homo Iracundus: حين تكون نسبة العقل للنفسيه للغريزة على التوالي 2 : 5 : 3 مثلا, المهم أن تكون النفسية هي أقوى ما فيه أيا كان نسبتها إلي بقية الأشخاص بداخله. هذا الإنسان يستجيب و يسلك في الغالب بواسطة المعايير الإجتماعية-النفسية للعظمة و الدونية, و لن يستجيب في الغالب عن طريق إستثارة غرائزه الحيوانية إلا في حالات الإجماع الشعبي لأنه هنا سيستجيب للمعايير الإجتماعية بأكثر مما يستجيب لغريزته .. و هو لا يقبل الحوار العقلاني و خصوصا لو إصطدم مع الثوابت الإجتماعية. و هذة النوعية يمثلها تقريبا 25% من الجنس البشري.
3- الإنسان العقلاني Homo Sapiens: حين تكون نسبة العقل للنفسيه للغريزة على التوالي 5 : 3 : 2 مثلا, المهم أن يكون العقل هو أقوى ما فيه أيا كان نسبته إلي بقية الأشخاص بداخله. هذا الإنسان يستجيب و يسلك في الغالب بواسطة قناعاته العقلية عن الحق و الباطل, و لأنه يستقي قناعاته من محيطه الإجتماعي غالبا فمفاهيمه العقلية عن الحق و الباطل من الممكن أن تكون مشوهة بالرغبات الغرائزية و التصورات الإجتماعية المشوهة عن العظمة و الدونية .. لأن ما يقرب من 95% من الناس ليسوا عقلانيين و بالتالي فالمفهوم السائد عن الحق و الباطل هو غالبا فاسد. و مع ذلك هو يقبل الحوار العقلاني المنطقي و يسهل أن يستجيب للمنطق الواضح أكثر مما يستجيب للمفاهيم الإجتماعية عن العظمة و الدونية و أكثر مما يبرر لنفسه الإنفلات الغرائزي.
مسألة #1 :
لو إفترضنا أن هناك هدف معين يمكن إعتباره هدف باطل بوضوح يبلغ 70%, و هذا السعي يعيب صاحبه بحسب المعايير الإجتماعية للصواب و الخطأ بنسبة 50% لكنه يحقق لذة حيوانية بنسبة 90%. إعرف نوع الإستجابة بالنسبة للثلاث نماذج السابقة للبشر, هل سيستجيبوا لهذا الهدف أم لا ؟!
الإجابة :
- الإنسان الغرائزي = (-) 70% من 2 (العقل) – 50% من 3 (النفسية) + 90% من 5 (الغريزة)
- الإنسان الغرائزي = (-) 1.4 (العقل) – 1.5 (النفسية) + 4.5 (الغريزة) = 1.6 موجب
- و بالتالي نعم, الإنسان الغرائزي سيستجيب لهذا المسعى.
(أجب بنفسك عن النموذجين التاليين)
أما التردد و الحيرة في السلوك و إتخاذ القرارات يمكن تفسيره بأن من ضمن النماذج البشرية قد تجد إنسان نسبة العقل للنفسية للغريزة بداخله 4 : 4 : 2 مثلا, أو 4 : 3 : 3 و هذة النوعية ستشعر بصراعات داخلية في كثير من المواقف حين لا تعرف لأي شخص من الأشخاص المتصارعة داخلها تنحاز. و تعتبر النفسية و الغريزة تحالف واحد عادة فهم غالبا ما يتكتلون و يسيطرون على العقل, و بالتالي يشوهون المفاهيم و المعاني العقلية من أجل تعظيم الذات بالباطل و تبرير الغرائز بالباطل .. لكن في أحيان كثيرة تتضارب الإرادات الثلاثة داخل الإنسان فيعيش التخبط السلوكي و التردد و الحيرة في إتخاذ القرارات.
تبدو الفكرة مغرقة في التبسيط و الإختزال و لكن ذلك يرجع إلي أنها مبسطة و مختزلة عن أصلها فعلا, لأن هناك عوامل أخرى تتداخل مع دوافع اتخاذ القرار و السلوك. منها مثلا التغيرات الكيميائية و الهرمونية العشوائية في جسم الإنسان و هذا يتسبب في عشوائية إتخاذ القرارات و لذلك يمكن أن نعينه مثلا بهامش خطأ 0.5 بالسالب أو بالموجب. هناك أيضا مسألة مهمة هي أن العقلاني لا يسلك بالضرورة سلوكا عقلانيا .. و هذا مرده إلي المعلومات الخاطئة التي يستمدها العقل من المجتمع و من ثم تجبره على إتخاذ قرارات خاطئة و السلوك سلوكا خاطئا .. فلا يوجد في العالم عقل قادر على إتخاذ قرارات صحيحة مهما كان هذا العقل ذكيا و موهوبا إذا كانت المعلومات التي يعتمد عليها مزيفة أو مشوهة.
هذا بالإضافة إلي أن الوعي الجمعي (أو بمعنى أصح الغريزة و النفسية الجمعية) هو وعي فاسد و متناقض في الغالب, و هذا بدوره يضلل الوعي الفردي على أساس حسابي كمي مغلوط مفاده أن وعي فردين أفضل من وعي فرد واحد و إن وعي ثلاثة أفراد أفضل من وعي الفردين. و هو منطق فاسد ينتصر للكم على الكيف, و كأن عشر حمير او عشرين بقرة سيكونون أذكى أو أعلم من أشخاص كأينشتاين او داروين لمجرد انهم أكثر عددا !!
و مع أن الناس تختلف بحكم إختلاف الوراثة الجينية و إختلاف الظروف البيئة, لكن لأن هناك وهم سائد بين القرود البشرية مفاده أن كل البشر سواء و إنهم جنس واحد و متشابهين .. يتصور كل إنسان (في الغالب) إن دوافعه هي نفس دوافع كل الناس و أن حوافزه هي نفس حوافز كل الناس (الدافع من الداخل و الحافز من البيئة). لذلك تجد كثير من الناس العقلانيين لديهم قناعة جازمة أن أي خلاف بينه و بين الآخرين يمكن حله بالنقاش العقلاني المنطقي الهادئ .. فهو يتصور أن كل الناس عقلانيين مثله. و تجد الإنسان النفساني يحاول دائما مخاطبة العواطف الإنسانية و الضمير الإجتماعي متصورا أن كل الناس تقبل و تحتكم للمعايير الإجتماعية للخير و الشر, النجاح و الفشل, الصواب و الخطأ. و تجد الإنسان الغرائزي يخاطب الغرائز الحيوانية و الشهوات الحسية لدى الناس و هو على يقين أن كل الناس تضعف أمام المال و الجنس و الممتلكات و تقبل الرشاوي و تخشى العصا و العنف مثله.
الغالبية الساحقة من البشر لديهم هذا التصور الطفولي البليد أن بقية الناس مثلهم, تفكر مثلهم و تهتم بما يهتمون به .. و لو أظهر بعض الناس غير ذلك يظنونهم منافقين أو مدعين أو كاذبين لكنهم أبدا لن يعترفوا أنهم مختلفين عنهم أبدا. في الحقيقة الناس تتكلم بلغات مختلفة في معظم حواراتهم على إفتراض أنهم يتكلمون نفس اللغة لمجرد أنهم يستخدمون نفس الكلمات, يتصورون ان نفس الكلمات لها نفس الدلالات و المعاني عند الجميع و على هذا الأساس يخوضون في حوارات الطرشان !!
و بسبب هذا التوهم الزائف عن وحدانية النوع البشري ذهب علماء النفس إلي الثلاث مذاهب :
سيجموند فرويد ذهب إلي أن الإنسان غرائزي (برغم أنه كان عقلانيا أيضا) و إعتبر أن الغريزة عموما و الجنس خصوصا هم الدوافع الأساسية الكامنة خلف أي سلوك بشري, كما إعتبر أن العنف و التدمير هما ميول قوية أيضا عند كل الناس. الفريد أدلر ذهب أن الإنسان نفساني (برغم أنه كان عقلانيا أيضا) و إعتبر ان مركّب العظمة Superiority Complex هو ما يدفع كل إنسان بينما مركّب الدونية Inferiority Complex هو ما يمنع كل إنسان. أما جان بياجيه فقد ذهب إلي أن الإنسان عقلاني و لذلك بحث و درس الدوافع العقلية والإدراك و النمو المعرفي و السلوكي و الذكاء الإصطناعي .. من زاوية أن الإنسان عقلاني فقط. و كل عالِم منهم كان محقا لأن كل واحد منهم كان يصف الجنس الذي ينتمي إليه و يرى كل البشر بعيونه, مع إن القرود البشرية هم ثلاثة أجناس متداخلة تعيش على نفس الكوكب و في نفس المدن و القرى. فرويد (عقلاني-غرائزي) و الفريد أدلر (عقلاني-نفساني) و جان بياجيه (عقلاني) كلهم كانوا محقين و كلهم قدموا تصورات هي أقرب إلي الصحة عن كل جنس من الأجناس الثلاثة.
النشوء و الإرتقاء
إذا كان الإنسان الواحد مكون من ثلاثة أشخاص كل شخص منهم يعمل بنظام ثنائي أحدهما موجب و الآخر سالب (+ / -), كيف نشأت هذة الدوافع و كيف تطورت ؟! يعني لماذا نجد في الجنس لذة ؟ و لماذا نجد في مساعدة الناس خير ؟ و لماذا نجد في الإحتكام للمنطق و البحث عن الحقائق عقلانية ؟
و لنبدأ بالسؤال : لماذا نجد في الجنس لذة ؟!
و إجابة هذا السؤال ستكون بسؤال : هل لو لم يكن الجنس ممتعا كان الناس و الكائنات الحية عموما سيقبلون على ممارسة الجنس ؟! يعني بدون اللذة الجنسية ما الذي قد يجعل كائن حي يتكاثر جنسيا يضع عضوه التناسلي داخل العضو التناسلي لكائن حي آخر من نفس النوع, و لماذا يقبل هذا الكائن الحي الآخر ذلك أيضا ؟! الفكرة قد لا تتبادر إلي الذهن أصلا. السبب الوحيد المنطقي لفعل مثل هذا الفعلة هو فهم آلية التكاثر الجنسي و الإقتناع باهمية فعل ذلك للحفاظ على النوع. هذا سيجعل التكاثر الجنسي فعل إجتماعي يحدث نتيجة لضرورة حتمية, و سيجعل الأزواج الذين يمارسون هذا النشاط هم أبطال و فدائيين يضحون من أجل بقاء المجتمع و إستمرار النوع.
لكن لأن الدفع و التحفيز الإجتماعي-النفسي (مثلا) ليس بقوة دفع و تحفيز الغرائز الحسية الحيوانية فقد حفزت الطبيعة الكائنات الحية لكي تكون قوية الغريزة بحيث تجد في الجنس متعة عظيمة و لذة لا يعوقها شيء بواسطة الإنتخاب الطبيعي .. فمن وجدوا في الجنس لذة مارسوا الجنس أكثر و أنجبوا أطفال أكثر و ساد نسلهم بالكثرة العددية على نسل من وجدوا في الجنس لذة أقل. بالطبع هذا لم ينشأ في حالة البشر أو القردة العليا, بل هذا الإنتخاب الطبيعي كان يحدث منذ نشأة التكاثر الجنسي في الكائنات الحية الجديدة متعددة الخلايا.
سؤال مشابه : لماذا نجد في الطعام لذة ؟!
مرة أخرى, هل كانت الكائنات الحية ستقبل على الغذاء لو لم تشعر بمكافأة لذيذة مقابل تناولها للطعام ؟! يعني بدون الشعور بألم الجوع و لذة الطعام ما الذي يمكنه أن يوحي للكائنات الحية بوضع الأشياء في فمها و مضغها ؟!! إنه الإنتخاب الطبيعي (مع الإنتخاب الجنسي) الذي يفسر كل ما يمكن ان تتصف به و تتميز به الكائنات الحية, الإنتخاب الطبيعي الذي يستفز و يحفز الغريزة لكي تجعل الكائنات الحية تسعى للحفاظ على نفسها و الإستمرار في الحياة بلا وعي أو إرادة منها .. بل بشكل تلقائي آلي لاإرادي ولا عقلاني.
الطبيعة لا تعقل و لا يمكنها أن تحاول إقناع كل كائن حي على حدة أن الطعام مهم و مفيد لصحته و إستمراره أو أن الجنس سيحفظ نوعه و يمرر جيناته إلي جيل قادم لأنها غبية و حمقا أصلا, فهي لا تعقل و تربي أطفالها أيضا بطريقة آلية غبية لكي يكون آليين و أغبياء. يعني كم أب أو أم يحاولون إقناع أطفالهم أن يفعلوا أي شيء أو يمتنعوا عن أي شيء بالعقلانية و السببية ؟ و كم منهم يفلح في هذا الإقناع ؟ اليس من الأسهل لو قمت بتهديد أطفالك بالضرب أو المنع من أشياء محبوبة, أو قمت برشوتهم لكي يشربوا اللبن أو يلتفتوا إلي دروسهم مثلا ؟! إن الطبيعة الآلية الحمقاء كانت دائما مدرسة رائعة في التربية بالنسبة للغرائزيين.
لكن كل هذا يعني للأسف أن كل المتع و الملذات الحسية التي نشعر بها مجرد توهمات زائفة, فلا شيء ممتع بشكل موضوعي فعلا أو لذيذ في ذاته .. بل هو ممتع بالنسبة لي و لذيذ على لساني فقط. الطبيعة تكافئ المرء لو نفع نفسه أو بني جنسه بأن تجعل دماغه تفرز مخدرات معينة تشعره باللذة, مجرد إشارات كهربية عصبية قادرة على جعله عبدا للطبيعة و أسير لما تعتبره الطبيعة منفعة على مدى حياته. و المشكلة في الموضوع أن الطبيعة ليست عقلانية و لا تقوم بحسابات منطقية من أي نوع, لذلك هي تدفع المرء نحو منافع إمتنعت عن كونها منافع منذ عصور طويلة أحيانا.
يعني مثلا الإنسان يحب تذوق الأشياء الحلوة لأنه كان يحتاج إلي الأطعمه ذات النسبة العالية من السكّر لكي تمده بالطاقة في حركته و نشاطه, لكن لان الإنسان الحديث لم يعد يعيش في غابة فقد أصبح أقل نشاطا و بالتالي إنتفت حاجته إلي كل هذا الكم من الطاقة في الغذاء. طبعا الطبيعة لا تعلم ذلك فهي تحتاج لأجيال و اجيال من الميزات التنافسية لمن لا ينجذبون ناحية الأطعمة عالية الطاقة لكي يعمل الإنتخاب الطبيعي و الإنتخاب الجنسي بحيث ينقرض البشر الذين ينجذبون للأطعمة الحلوة أو على الأقل يشتهون الأطعمة الحلوة بشكل زائد. لذلك فلا تزال الطبيعة حتى الآن تدفع الناس لتناول الأطعمة التي تحتوي على نسبة عالية من السكّر بواسطة اللذة العصبية التي يحصلون عليها من هذة الأطعمة مع إنهم لم يعودوا في حاجة إليها منذ عصور طويلة.
كذلك يمكن ملاحظة الامر بالنسبة للجنس. فالطبيعة تدفع الأنواع الحية للحفاظ على نوعها بواسطة التكاثر عن طريق الممارسة الجنسية فتكافئ من يمارس الجنس عن طريق إشعاره بلذة كبيرة. لكن حين يعاني الجنس البشري من زيادة كبيرة في التعداد السكاني و النمو السكاني فالطبيعة لا تعكس هذة الآلية بحيث تتسبب في ألم شديد مثلا لمن يمارس الجنس بحيث تعيد التوازن البيئي بين الكائنات الحية, لا .. الطبيعة تترك هذا النوع يتكاثر كما يريد و تتركهم يحلون مشاكلهم مع الإنفجار السكاني بواساطة المجاعات و الفقر و الحروب و غيره. فالطبيعة تعمل بشكل آلي غبي, لا تحسب حسابات و لا تعبأ بأحد و لا يمكن الإعتماد عليها للحفاظ على النوع أو لتطوره, لأنها تتسم بالخيانة و الغدر و من السهل أن تسحب أي مكتسبات أعطتها لأحد الأنواع الحية لصالح حيوان جديد لديه ميزات تنافسية جديدة.
و أسلوب التحكم الطبيعي في الكائن الحي بواسطة اللذة و الألم الذي تقوم به الطبيعة, يقوم به المجتمع أيضا بشكل آلي غبي معتمد بشكل مباشر على الآلية الطبيعة .. فالمجتمع يتحكم في البشر بواسطة العظمة و الدونية. كل إنسان يسعى للنجاح أو الثراء أو السلطة أو فعل الخير أو التدين أو أي فعل إجتماعي آخر إنما يفعل ذلك سعيا للشعور بالإحترام و الحب و التميز و الأمان في المجتمع و هو ما يمكن تسميته بمركّب العظمة .. و هربا من الشهور بالإحتقار و الكراهية و التفاهة و التهديد في المجتمع و هو ما يمكن تسميته بمركّب الدونية أو مركّب النقص. بل إن من أظرف التطبيقات لهذة الثنائية الطبيعية الإجتماعية هو التجربة التي قام بها العالم الأمريكي / جون تشابين John Chapin حيث قام بوضع أقطاب كهربية على دماغ فأر بحيث يولد لديه شعور باللذة و شعور الألم بواسطة ريموت كنترول عن بعد .. و عن طريق هذا الريموت كنترول يقوم بتحريك هذا الفأر الحي في الإتجاهات التي يريدها !!
إذن لماذا يجب أن نحيا ؟
لو كان السؤال هو “لماذا نحن أحياء بالفعل ؟” فإجابة هذا السؤال ستكون أننا أحياء و نحيا من أجل ما تعتقد عقولنا انه الحق و من أجل ما تعتقد نفوسنا أنه العظمة و من اجل ما تعتقد غرائزنا أنه المتعة. و يختلف الحق بالطبع بين الناس تبعا لمتغيرات كثيرة بحيث يكون الإله أو الدين أو العقيدة أو الأيديولوجيا أو المبدأ او أيا ما يكون الحق بالنسبة لكل واحد .. و أيا كانت عقلانيته و إستجابته لما يعرف انه الحق. و تختلف العظمة بين الناس أيضا تبعا لمتغيرات كثيرة بحيث تكون النجاح أو الشهرة أو السلطة أو الشعبية أو الحب أو أيا ما تكون العظمة لكل واحد .. و أيا كانت نفسيته و إستجابته لما يعرف أنه العظمة. و تختلف المتعة بين الناس تبعا لمتغيرات كثيرة بحيث تكون المتعة هي الجنس أو الطعام أو الثروة أو السفر أو المخدرات أو أيا ما تكون المتعة لكل واحد .. و أيا كانت غريزته و إستجابته لما يعرف أنه متعة.
لكن لماذا يجب أن نحيا هو سؤال آخر يختلف ..
فبسبب عشوائية و حمق الطبيعة يتخبط الناس و يحتاروا و يترددوا كثيرا في الحياة, و يختاروا إختيارات خاطئة و يسلكوا سلوكيات عشوائية و يندموا على أشياء و يحزنوا على أشياء .. و في النهاية نجد عالمنا غارقا في العشوائية الطبيعة و الفوضى الحمقاء. لكن هناك إمكانية لتحسين و تطوير هذا ..
الحل هو العلم, أن يكون العلم هو الغاية و هو الوسيلة معا. فإذا كان العقل يعمل بواسطة ثنائية (الحق و الباطل) فليكن الحق حقا علميا و الباطل باطلا علميا, بمعنى أن يكون (الحق = العلم) و (الباطل = الجهل). و إذا كانت النفسية (التي يتحكم فيها المجتمع) تعمل بواسطة ثنائية (العظمة و الدونية) فلتكن العظمة علمية و الدونية علمية, بمعنى أن تكون (العظمة = الإنجاز العلمي) و (الدونية = العدوان ضد العلم). و إذا كانت الغريزة (الحياة) تعمل بواسطة ثنائية (اللذة و الألم) فلتكن اللذة علمية و الألم علمي, بمعنى أن يكون التعلم و الإكتشاف و الإختراع متع حسية و أن يتم التحكم في اللذات الحيوانية الأخرى لجعلها منضبطة و نافعة .. كما تكون الخرافة و الجهل و العجز آلام حسية و أن يتم التحكم في الآلام الحيوانية الأخرى لجعلها منضبطة و نافعة. و هو ما يمكن الإشارة إليه بمثلث القيم العلموية : العلم و التقنية و الذكاء.
من المهم طبعا أن يعرف المرء هويته الحقيقية بعيدا عن الضلالات العقلية و الإنحرافات الإجتماعية و الشهوات الغرائزية .. أن يعرف نفسه فعلا بموضوعية علمية. يعني لو كان أميل إلي العقلانية مثلا بنسبة 4 : 3 : 3 بين العقل و النفسية و الغريزة فليقبل و يتعامل, و بالتالي يوزع إهتمامه و نشاطه على العناصر الثلاثة حسب نسبة كل عنصر منهم إلي الآخرين. و لو كان أميل إلي النفسانية مثلا بنسبة 3 : 4 : 3 بين العقل و النفسية و الغريزة فليقبل و يتعامل, و بالتالي يوزع إهتمامه و نشاطه على العناصر الثلاثة حسب نسبة كل عنصر منهم إلي الآخرين. و نفس الشيء لو كان غرائزيا, فلا شيء خاطئ و لا شيء معيب و لا شيء يدفع إلي الندم أو الحزن. على المرء أن يقبل نفسه على حقيقتها و أن يتعامل على هذا الأساس .. فلا يسمح لناس مختلفين عنه أن يفرضوا عليه إشباعاتهم و اهدافهم الخاصة و التي لن تلائمه في الغالب.
المهم أن نحتكم جميعا إلي العلم في معرفة الحق من الباطل, في تحقيق العظمة و نبذ الدونية, و في تحصيل المتع و هجر الآلام .. بدلا من كل التخبط و الضياع و الإنحراف الذي قد يحيا فيه المرء بعيدا عن العلم و التعلم. و بدون العلم نحن لسنا أكثر من مجرد حيوانات, فئران تتحكم بها الطبيعة كما يتحكم العالم جون تشابين في الفأر بواسطة الأقطاب الكهربائية على الدماغ. فكل البشر هم فئران تجارب بالنسبة إلي الطبيعة الأم, كلنا كلنا مجرد فئران تجارب .. الطبيعة تخترع إختراعات و تصنع آلات و تختبرها طوال الوقت. الفارق فقط هو أن من يسعى للتخلص من عبودية الطبيعة عن طريق العلم و لصالح العلم يكون هو الإنسان حقا و العاقل حقا .. و إن حرركم العلم فبالحقيقة تكونون أحرارا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق