لاشك أن الله يقبل التوبة من عباده ما دام المرء في زمن المهلة، قال الله تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [التوبة:104].
وقال جل وعلا: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره:
«هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر».
وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
والمخالفون ما زالوا يتوبون ويؤوبون ويرجعون إلى الله تعالى وتحسن توبتهم، وقبل نقل نماذج من توبة بعض من كان على غير السنة، أود التنبيه على أمور مهمة:
الأول: رُوي حديث مفاده: (أن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
إلا أن هذه الرواية ينازعها أمران:
1- أن بعض أهل الحديث طعن في رجال سندها، ومن ذلك ابن الجوزي في كتابه العلل المتناهية حيث قال:
«[باب منع التوبة عن صاحب البدعة]:
(211) أنا محمد بن ناصر، قال انبأنا علي بن عبد الرحمن بن عليك النيسابوري، قال أنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان الحنفي، قال: أنا أبو العباس محمد يعقوب، قال: أنا أبو عتبة أحمد بن الفرج، قال: أنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا محمد الكوفي، عن حميد الطويل، عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
(212) طريق آخر: أنبانا علي بن عبد الله بن عطاء الإبراهيمي، قال: أنا عبد الله ابن محمد الأنصاري، قال: أخبرنا أبو يعلى الهروي، قال: أنا محمد بن صالح الأشج، قال: أنا داود بن إبراهيم العقيلي، قال: أنا بقية، قال: أنا محمد بن عبد الرحمن، عن حميد الطويل، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
قال المؤلف: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدار الطريقين على محمد بن عبد الرحمن الكوفي القشيري، قال ابن عدي: هو منكر الحديث مجهول، وهو من مشايخ بقية المجهول» اهـ.
2- أن هناك زيادة مهمة جاءت عند الطبراني صححها العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).
ثم أيضًا قد أجاب أهل العلم عن هذا الإشكال الوارد في هذا الحديث من كون التوبة محجوبة عن أهل البدع بأجوبة، منها:
1) أن هذا الحديث من نصوص الوعيد التي لا تفسر عند أهل السنة لتبقى هيبة الزجر عن الابتداع، ومذهب أهل السنة أن كل ما توعد الله به العبد من العقاب فهو بشرط ألا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه.
قال شيخ الإسلام:
«وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) [النساء:10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز ألا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع».
2) أن أهل البدع على قسمين: منهم من يشرب البدعة وتخالط هواه، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبَ بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)([8])، فهؤلاء هم الذين تحجب عنهم التوبة، بمعنى أنه قلما أن يرجع عن هذه البدعة.
قال الشاطبي رحمه الله: «معنى هذه الرواية: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم، حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها، على حد ما يداخل داء الكَلَب جسم صاحبه، فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا عرق ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء، وهو جريان لا يقبل العلاج، ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى؛ إذا دخل قلبه، وأشرب حبه، لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه.
واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء؛ كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد وسواهما؛ فإنهم كانوا -حيث لقوا- مطرودين من كل جهة، محجوبين عن كل لسان، مبعدين عند كل مسلم، ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديًا على ضلالهم، ومداومة على ما هم عليه، ((وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) [المائدة:41]».
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (...يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه).
وأما القسم الثاني فلا يكون كذلك، فهذا تكون توبته قريبة.
3) أن المبتدع يرى أن بدعته هذه دين، ويحسب أنه على هدى، ويظن أن رجوعه عن هذه البدعة هو رجوع عن الحق والدين، ولهذا قل أن يتوب منها، بخلاف صاحب المعصية الذي يعلم أنه على خطأ ومعصية، وأن فعله هذا مخالف للدين، فرجوعه وتوبته أقرب.
وكما قرر شيخ الإسلام رحمه الله أن أول التوبة هو العلم بأن الفعل سيئ، وهذا ما لا يدركه المخالف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: «...قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها، ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر؛ فإنه لا يتوب.
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)) [محمد:17]، وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمً)) [النساء:64-66]، وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحديد:28]، وقال تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) [البقرة:257]، وقال تعالى: ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [المائدة:15]، وشواهد هذا كثيرة فى الكتاب والسنة...» إلخ.
وقال كذلك رحمه الله:
«...وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار؛ فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها، فعلم بالعلم العام أنها قبيحة كالفاحشة والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى، وكذلك البدع كلها.
ولهذا قال طائفة من السلف منهم الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه كما يتوب على الكافر، ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه: ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة؛ فإنه يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله.
والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، رجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا، وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز وغيره، منهم من سمع العلم فتاب، وهذا كثير...» إلخ.
الثاني: أن توبة المخالف مقبولة سواء كان هذا المخالف رافضيًا أو جهميًا أو قدريا... إلخ.
أو كان هذا المخالف داعية أو منظرًا أو مجتهدًا أو مستدلًا... إلخ، فكل هذه الأصناف تقبل توبتهم على الصحيح، ولا يفرق بين مخالف وآخر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
«...وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة، الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى؛ بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة.
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول: إن الداعى إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي فيه: (أنه قيل لذلك الداعية: فكيف بمن أضللت؟) و هذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليسوا من العلماء بذلك؛ كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتج به؛ بل يروون كل ما في الباب محتجين به، وقد حكى هذا طائفة قولًا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم، وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل وغيرهم، بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم، قال تعالى ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) [الأنفال:38]، وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله)...» إلخ.
وقال رحمه الله:
«...وقولهم: إن توبة ساب الصحابة لا تقبل، وأنه مخلد في النار، خطأ؛ بل الذي عليه السلف والأئمة، كالأئمة الأربعة وغيرهم أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله، والحديث الذي يروي: (سب صحابتي ذنب لا يغفر)، حديث باطل، لم يروه أحد من أهل العلم، ولو قدر صحته فالمراد به من لم يتب؛ فإن الله يأخذ حق الصحابة منه، وأما من تاب فقد قال الله تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) [الزمر:53]، وهذا في حق التائب، أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، وساب الصحابة إذا كان يعتقد جواز ذلك فهذا مبتدع ضال كسائر الضلال، والحق في ذلك لله، كمن سب الرسول معتقدًا أنه ساحر أو كاذب، فإذا أسلم هذا قبل الله إسلامه، كذلك الرافضي إذا تبين له الحق وتاب قبل الله منه، وإن كان يقر بتحريم ذلك فهذا ظالم، كمن قذف غيره واغتابه، ومظالم العباد تصح التوبة منها، ويدعو لهم ويثني عليهم بقدر ما لعنهم وسبهم، فإن الحسنات يذهبن السيئات» اهـ.
وقال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله في كتابه الماتع الآداب الشرعية:
فصل في: [التوبة من البدعة المفسقة والمكفرة وما اشترط فيها]:
«ومن تاب من بدعة مفسقة أو مكفرة صح إن اعترف بها وإلا فلا، قال في الشرح: فأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها، قال في الرعاية في موضع آخر: من كفر ببدعة قبلت توبته على الأصح، وقيل: إن اعترف بها وإلا فلا، وقيل: إن كان داعية لم تقبل توبته، وذكر القاضي في الخلاف في آخر مسألة: هل تقبل توبة الزنديق؟ قال أحمد في رواية المروذي في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد: ليست له توبة، إنما التوبة لمن اعترف، فأما من جحد فلا توبة له. وقال في رواية المروذي: وإذا تاب المبتدع يؤجل سنة حتى تصح توبته، واحتج بحديث إبراهيم التيمي أن القوم نازلوه في صبيغ بعد سنة فقال: جالسوه وكونوا منه على حذر.
وقال القاضي أبو الحسين بعد أن ذكر هذه الرواية وغيرها: فظاهر هذه الألفاظ قبول توبته منها بعد الاعتراف والمجانبة لمن كان يقارنه ومضى سنة، ثم ذكر رواية ثانية أنها لا تقبل، واختارها ابن شاقلا واحتج لاختياره بقوله عليه السلام: (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وروى أبو حفص العكبري بإسناده عن أنس مرفوعًا: (إن الله عز وجل احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
وقال الشيخ تقي الدين: وهذا القول الجامع للمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من استثنى بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه: (فكيف بمن أضللت؟) وهذا غلط، فإن الله تعالى قد بين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع. انتهى كلامه.
قال ابن عقيل في الإرشاد: الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان، وقد ضل به خلق كثير، وتفرقوا في البلاد وماتوا؛ فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته، ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحمهم، وبه قال أكثر العلماء خلافًا لبعض أصحاب أحمد، وهو أبو إسحاق بن شاقلا، وهو مذهب الربيع بن نافع وأنها لا تقبل، ثم احتج بحديث الإسرائيلي وغيره، وقال: لا نمنع أن يكون مطالبًا بمظالم الآدميين، ولكن هذا لا يمنع صحة التوبة؛ كالتوبة من السرقة وقتل النفس وغصب الأموال صحيحة مقبولة، والأموال والحقوق للآدمي لا تسقط، ويكون هذا الوعيد راجعًا إلى ذلك، ويكون نفي القبول راجعًا إلى القبول الكامل، وقال: هو مأزور بإضلالهم، وهم مأزورون بأفعالهم، وقد تقدمت المسألة في أول فصول التوبة» اهـ.
· بل قد قال أهل العلم المحققين بقبول توبة من تكررت ردته وظهرت زندقته إذا تاب إلى الله وأعلن صدق توبته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
«...والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت ردته أو قبول توبة الزنديق فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قدر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله: ((يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53]...» إلخ.
قال ابن قدامة رحمه الله بعد أن ساق أقوال أهل العلم في حكم قبول توبة الزنادقة: «وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا: من ترك قتلهم، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله تعالى لها في الباطن، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنًا وظاهرًا، فلا خلاف فيه، فإن الله تعالى قال في المنافقين: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)) [النساء:146]».
فإذا كانت التوبة مقبولة لمن أشرك في الدعاء، وارتكب كبائر الذنوب؛ فإنها تقبل من المخالف، بل إن الآيات القرآنية أوضحت أن باب التوبة مفتوح للكفار والمشركين، كقوله تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5].
وكقوله عز وجل: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:73].
فهذه أدلة تفيد إمكانية توبة المخالف وقبولها، وأن التائب الصادق يغفر الله له ذنبه ويعفو عنه.
توبة المخالف الداعي إلى البدعة:
تقدم أن مذهب بعض العلماء بأن الداعي إلى البدعة لا توبة له.
لكن الصحيح والراجح هو أنه يمكن حصول توبة الداعي إلى بدعة وقبولها، فإن الله قد بين في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، فقد تاب الله على أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. وأيضًا فالداعي إلى الكفر والبدعة كان أصدّ من غيره، فذلك الغير يعاقب على ذنبه لكونه قبل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره، ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم..».
وذكر السفاريني قول طائفة من العلماء: «الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان، وقد ضل به خلق كثير وتفرقوا في البلاد، وماتوا، فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته، ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحم به، قاله أكثر العلماء».
فظهر بحمد الله جليًا صحة توبة المخالفين لأهل السنة والجماعة وغيرهم في الباطن من زنادقة وغيرهم مهما بلغت بدعهم وكبرت، وأن توبتهم متى ما توافرت فيها الشروط الداعية لقبولها وكانت صادقة فإنها مقبولة عند الله تعالى.
وقال جل وعلا: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره:
«هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر».
وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
والمخالفون ما زالوا يتوبون ويؤوبون ويرجعون إلى الله تعالى وتحسن توبتهم، وقبل نقل نماذج من توبة بعض من كان على غير السنة، أود التنبيه على أمور مهمة:
الأول: رُوي حديث مفاده: (أن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
إلا أن هذه الرواية ينازعها أمران:
1- أن بعض أهل الحديث طعن في رجال سندها، ومن ذلك ابن الجوزي في كتابه العلل المتناهية حيث قال:
«[باب منع التوبة عن صاحب البدعة]:
(211) أنا محمد بن ناصر، قال انبأنا علي بن عبد الرحمن بن عليك النيسابوري، قال أنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان الحنفي، قال: أنا أبو العباس محمد يعقوب، قال: أنا أبو عتبة أحمد بن الفرج، قال: أنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا محمد الكوفي، عن حميد الطويل، عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
(212) طريق آخر: أنبانا علي بن عبد الله بن عطاء الإبراهيمي، قال: أنا عبد الله ابن محمد الأنصاري، قال: أخبرنا أبو يعلى الهروي، قال: أنا محمد بن صالح الأشج، قال: أنا داود بن إبراهيم العقيلي، قال: أنا بقية، قال: أنا محمد بن عبد الرحمن، عن حميد الطويل، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
قال المؤلف: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدار الطريقين على محمد بن عبد الرحمن الكوفي القشيري، قال ابن عدي: هو منكر الحديث مجهول، وهو من مشايخ بقية المجهول» اهـ.
2- أن هناك زيادة مهمة جاءت عند الطبراني صححها العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).
ثم أيضًا قد أجاب أهل العلم عن هذا الإشكال الوارد في هذا الحديث من كون التوبة محجوبة عن أهل البدع بأجوبة، منها:
1) أن هذا الحديث من نصوص الوعيد التي لا تفسر عند أهل السنة لتبقى هيبة الزجر عن الابتداع، ومذهب أهل السنة أن كل ما توعد الله به العبد من العقاب فهو بشرط ألا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه.
قال شيخ الإسلام:
«وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) [النساء:10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز ألا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع».
2) أن أهل البدع على قسمين: منهم من يشرب البدعة وتخالط هواه، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبَ بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)([8])، فهؤلاء هم الذين تحجب عنهم التوبة، بمعنى أنه قلما أن يرجع عن هذه البدعة.
قال الشاطبي رحمه الله: «معنى هذه الرواية: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم، حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها، على حد ما يداخل داء الكَلَب جسم صاحبه، فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا عرق ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء، وهو جريان لا يقبل العلاج، ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى؛ إذا دخل قلبه، وأشرب حبه، لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه.
واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء؛ كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد وسواهما؛ فإنهم كانوا -حيث لقوا- مطرودين من كل جهة، محجوبين عن كل لسان، مبعدين عند كل مسلم، ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديًا على ضلالهم، ومداومة على ما هم عليه، ((وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) [المائدة:41]».
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (...يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه).
وأما القسم الثاني فلا يكون كذلك، فهذا تكون توبته قريبة.
3) أن المبتدع يرى أن بدعته هذه دين، ويحسب أنه على هدى، ويظن أن رجوعه عن هذه البدعة هو رجوع عن الحق والدين، ولهذا قل أن يتوب منها، بخلاف صاحب المعصية الذي يعلم أنه على خطأ ومعصية، وأن فعله هذا مخالف للدين، فرجوعه وتوبته أقرب.
وكما قرر شيخ الإسلام رحمه الله أن أول التوبة هو العلم بأن الفعل سيئ، وهذا ما لا يدركه المخالف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: «...قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها، ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر؛ فإنه لا يتوب.
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)) [محمد:17]، وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمً)) [النساء:64-66]، وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحديد:28]، وقال تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) [البقرة:257]، وقال تعالى: ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [المائدة:15]، وشواهد هذا كثيرة فى الكتاب والسنة...» إلخ.
وقال كذلك رحمه الله:
«...وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار؛ فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها، فعلم بالعلم العام أنها قبيحة كالفاحشة والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى، وكذلك البدع كلها.
ولهذا قال طائفة من السلف منهم الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه كما يتوب على الكافر، ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه: ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة؛ فإنه يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله.
والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، رجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا، وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز وغيره، منهم من سمع العلم فتاب، وهذا كثير...» إلخ.
الثاني: أن توبة المخالف مقبولة سواء كان هذا المخالف رافضيًا أو جهميًا أو قدريا... إلخ.
أو كان هذا المخالف داعية أو منظرًا أو مجتهدًا أو مستدلًا... إلخ، فكل هذه الأصناف تقبل توبتهم على الصحيح، ولا يفرق بين مخالف وآخر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
«...وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة، الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى؛ بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة.
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول: إن الداعى إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي فيه: (أنه قيل لذلك الداعية: فكيف بمن أضللت؟) و هذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليسوا من العلماء بذلك؛ كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتج به؛ بل يروون كل ما في الباب محتجين به، وقد حكى هذا طائفة قولًا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم، وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل وغيرهم، بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم، قال تعالى ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) [الأنفال:38]، وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله)...» إلخ.
وقال رحمه الله:
«...وقولهم: إن توبة ساب الصحابة لا تقبل، وأنه مخلد في النار، خطأ؛ بل الذي عليه السلف والأئمة، كالأئمة الأربعة وغيرهم أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله، والحديث الذي يروي: (سب صحابتي ذنب لا يغفر)، حديث باطل، لم يروه أحد من أهل العلم، ولو قدر صحته فالمراد به من لم يتب؛ فإن الله يأخذ حق الصحابة منه، وأما من تاب فقد قال الله تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) [الزمر:53]، وهذا في حق التائب، أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، وساب الصحابة إذا كان يعتقد جواز ذلك فهذا مبتدع ضال كسائر الضلال، والحق في ذلك لله، كمن سب الرسول معتقدًا أنه ساحر أو كاذب، فإذا أسلم هذا قبل الله إسلامه، كذلك الرافضي إذا تبين له الحق وتاب قبل الله منه، وإن كان يقر بتحريم ذلك فهذا ظالم، كمن قذف غيره واغتابه، ومظالم العباد تصح التوبة منها، ويدعو لهم ويثني عليهم بقدر ما لعنهم وسبهم، فإن الحسنات يذهبن السيئات» اهـ.
وقال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله في كتابه الماتع الآداب الشرعية:
فصل في: [التوبة من البدعة المفسقة والمكفرة وما اشترط فيها]:
«ومن تاب من بدعة مفسقة أو مكفرة صح إن اعترف بها وإلا فلا، قال في الشرح: فأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها، قال في الرعاية في موضع آخر: من كفر ببدعة قبلت توبته على الأصح، وقيل: إن اعترف بها وإلا فلا، وقيل: إن كان داعية لم تقبل توبته، وذكر القاضي في الخلاف في آخر مسألة: هل تقبل توبة الزنديق؟ قال أحمد في رواية المروذي في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد: ليست له توبة، إنما التوبة لمن اعترف، فأما من جحد فلا توبة له. وقال في رواية المروذي: وإذا تاب المبتدع يؤجل سنة حتى تصح توبته، واحتج بحديث إبراهيم التيمي أن القوم نازلوه في صبيغ بعد سنة فقال: جالسوه وكونوا منه على حذر.
وقال القاضي أبو الحسين بعد أن ذكر هذه الرواية وغيرها: فظاهر هذه الألفاظ قبول توبته منها بعد الاعتراف والمجانبة لمن كان يقارنه ومضى سنة، ثم ذكر رواية ثانية أنها لا تقبل، واختارها ابن شاقلا واحتج لاختياره بقوله عليه السلام: (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وروى أبو حفص العكبري بإسناده عن أنس مرفوعًا: (إن الله عز وجل احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
وقال الشيخ تقي الدين: وهذا القول الجامع للمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من استثنى بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه: (فكيف بمن أضللت؟) وهذا غلط، فإن الله تعالى قد بين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع. انتهى كلامه.
قال ابن عقيل في الإرشاد: الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان، وقد ضل به خلق كثير، وتفرقوا في البلاد وماتوا؛ فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته، ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحمهم، وبه قال أكثر العلماء خلافًا لبعض أصحاب أحمد، وهو أبو إسحاق بن شاقلا، وهو مذهب الربيع بن نافع وأنها لا تقبل، ثم احتج بحديث الإسرائيلي وغيره، وقال: لا نمنع أن يكون مطالبًا بمظالم الآدميين، ولكن هذا لا يمنع صحة التوبة؛ كالتوبة من السرقة وقتل النفس وغصب الأموال صحيحة مقبولة، والأموال والحقوق للآدمي لا تسقط، ويكون هذا الوعيد راجعًا إلى ذلك، ويكون نفي القبول راجعًا إلى القبول الكامل، وقال: هو مأزور بإضلالهم، وهم مأزورون بأفعالهم، وقد تقدمت المسألة في أول فصول التوبة» اهـ.
· بل قد قال أهل العلم المحققين بقبول توبة من تكررت ردته وظهرت زندقته إذا تاب إلى الله وأعلن صدق توبته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
«...والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت ردته أو قبول توبة الزنديق فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قدر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله: ((يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53]...» إلخ.
قال ابن قدامة رحمه الله بعد أن ساق أقوال أهل العلم في حكم قبول توبة الزنادقة: «وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا: من ترك قتلهم، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله تعالى لها في الباطن، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنًا وظاهرًا، فلا خلاف فيه، فإن الله تعالى قال في المنافقين: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)) [النساء:146]».
فإذا كانت التوبة مقبولة لمن أشرك في الدعاء، وارتكب كبائر الذنوب؛ فإنها تقبل من المخالف، بل إن الآيات القرآنية أوضحت أن باب التوبة مفتوح للكفار والمشركين، كقوله تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5].
وكقوله عز وجل: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:73].
فهذه أدلة تفيد إمكانية توبة المخالف وقبولها، وأن التائب الصادق يغفر الله له ذنبه ويعفو عنه.
توبة المخالف الداعي إلى البدعة:
تقدم أن مذهب بعض العلماء بأن الداعي إلى البدعة لا توبة له.
لكن الصحيح والراجح هو أنه يمكن حصول توبة الداعي إلى بدعة وقبولها، فإن الله قد بين في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، فقد تاب الله على أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. وأيضًا فالداعي إلى الكفر والبدعة كان أصدّ من غيره، فذلك الغير يعاقب على ذنبه لكونه قبل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره، ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم..».
وذكر السفاريني قول طائفة من العلماء: «الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان، وقد ضل به خلق كثير وتفرقوا في البلاد، وماتوا، فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته، ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحم به، قاله أكثر العلماء».
فظهر بحمد الله جليًا صحة توبة المخالفين لأهل السنة والجماعة وغيرهم في الباطن من زنادقة وغيرهم مهما بلغت بدعهم وكبرت، وأن توبتهم متى ما توافرت فيها الشروط الداعية لقبولها وكانت صادقة فإنها مقبولة عند الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق