ذم إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق

بسم الله الرحمن الرحيم

ذم إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق _ لفضيلة الشيخ د : أسامة الخياط


الحمد لله العليم القدير، أحمده - سبحانه - وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - وتزوَّدوا بخير الزاد ليوم المعاد: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل: 111 ].
أيها المسلمون:في مواعظ سلفنا الصالح دُرَرٌ وكنوزٌ، يعظُمُ وقعُها في النفوس، ويجلُّ قدرُها في القلوب، جديرةٌ بأن يقِفَ كلُّ أريبٍ مُريدٍ للخير على مراميها، رغبةً في حِيازةِ أوفَى نصيبٍ من الهداية التي تكون له خير عدةٍ في حياته الدنيا، وسبيل سعادة وفلاحٍ في الآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
لذلك ما جاء عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حين كتب إليها معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يقول: (اكتبي لي كتابًا تُوصيني فيه ولا تُكثِري)، فكتبت إليه - رضي الله عنها - تقول: (أما بعد؛ فقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «

من الْتمسَ رضا الله بسخط الناس رَضِي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا النَّاسِ بسخط الله سخِطَ الله عليه وأسْخَط عليه الناس
»؛ أخرجه الترمذي في «جامعه»، وابن حبان في «صحيحه» بإسنادٍ صحيح.
ولا ريبَ أن كل مؤمنٍ بالله واليوم الآخر آتاه الله عقلًا يُميِّز به بين ما ينفعه وما يضرُّه، ويسلك به مَسالِكَ السلامة ويبلغ به الأمل في كل خيرٍ عاجلٍ أو آجِلٍ لا يُقدِّم رضا أحدٍ من الخلق مهما عظُمَ شأنُهُ، وسَمَت منزِلَتُه على رضا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، وإليه يُرجَع الأمرُ كله.

غير أن من الناس من غَلَبَت عليه الغفلة، وبعُد عن الجادَّة، واستجَابَ لداعي الهوى، وتزوير الشيطان، وتزيين النفس الأمَّارة بالسوء فآثَرَ رضا المخلوق العاجز الفاني على رضا ربه الأعلى؛ فتَرَدَّى في الظلمات، وأضاع طريقَ النجاة وكان أمره فُرُطَا.

ألا وإن لهذا الإيذان صورًا لا تُحصى؛ منها: تركُ النصح الواجب في عنق كل مسلم، والإعراض عن إنكار المنكر مُحاباةً ومُداراةً، أو خوفًا من بأسٍ أو سطوةٍ أو إيذاءٍ أو كيدٍ، وهو اتباعٌ لغير سبيل المؤمنين، ومُجانبةٌ لنَهْجِ الصالحين الذين يعلمون أن ربهم - عز وجل - قد أَوجَبَ الإنكار على كل من استعلَنَ بمنكر، والأخذ على يده وحجزه عن الاستمرار فيه - قريبًا كان أم بعيدًا رفيع القدر أم وضيعًا - سعيًا لاستصلاح شأن أهل الغواية واستنقاذهم من مجالب الهلاك وبواعث الضياع والخسران، وحفظًا للمجتمع من أسباب الضعف وعوامل الفساد التي تنخر في قواعده وتهدد بناءه.
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في «صحيحه» عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّره بيدِه، فإنْ لم يستطعْ فبلسانهِ، فإن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعف الإيمان».


فإذا أغفل الناس هذا الواجب، وأعرضوا عن هذا الهدي، وتركوا هذا السبيل عمَّ البلاء، وأطلَّ الشر برأسه، وبزَغَت بوادرُ الخطر، ووقع ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في «مسنده»، والترمذي في «جامعه» بإسنادٍ حسنٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيدِه لَتأْمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنْهَوُّن عن المنكر، أو لَيوْشكنَّ الله أن يبعثَ عليكُمْ عقابًا من عنده، ثم لتدعُنَّه فلا يستجيب لكم».

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135 ].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقولُ قَوْلي هذا وأستغفِرُ الله - العظيم الجليل - لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلِ فلا هَادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم وصلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيا عباد الله:

قال بعض أهل العلم: إن إرضاء الناس بسخط الله - تعالى - ضعفٌ في اليقين الذي هو الإيمان كله، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (وكمال الإيمان في إيثار ما يرضي الله على ما تهواه النفوس والصبر على مخالفة هواها، كما قال - تعالى -: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39 ].

وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضا المخلوق بما يجلب سخط خالقه وربه الذي يتصرَّف في القلوب، ويُفرِّج الكروب، ويغفر الذنوب.

وبهذا الاعتبار يدخل في نوعٍ من الشرك؛ لأنه آثَرَ رضا المخلوق على رضا الله، وتقرَّب إليه بما يُسخط الله، ولا يَسلَم من هذا إلا من سلَّمه الله ووفَّقَه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله وتنزيهه - تعالى - عن كل ما يُنافِي كماله ومعرفة توحيده في ربوبيته وإلهيته.

فاتقوا الله - عباد الله -، واحرِصُوا كلَّ الحرص على بلوغ رضاه، والتعلُّق به دون سواه؛ فإنه - سبحانه - المُعطِي المَانِع الضارّ النافع لا رَبَّ غيره ولا إله سواه.
واذكروا على الدوام أن الله - تعالى - قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم رسل الله؛ فقال - سبحانه - في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ].

ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق