بسم الله الرحمن الرحيم
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } يعني بذلك جل ثناؤه : ولقد عفا عنكم أيها المؤمنون إذ لم يستأصلكم , إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم , وهربكم ; { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } واختلفت القراء في قراءة ذلك , فقرأه عامة قراء الحجاز والعراق والشام سوى الحسن البصري : { إذ تصعدون } بضم التاء وكسر العين , وبه القراءة عندنا لإجماع الحجة من القراء على القراءة به , واستنكارهم ما خالفه . وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : " إذ تصعدون " بفتح التاء والعين . 6396 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف , قال : ثنا القاسم بن سلام , قال : ثنا حجاج , عن هارون , عن يونس بن عبيد , عن الحسن . فأما الذين قرءوا : { تصعدون } بضم التاء وكسر العين , فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أن القوم حين انهزموا عن عدوهم أخذوا في الوادي هاربين . وذكروا أن ذلك في قراءة أبي : " إذ تصعدون في الوادي " . 6397 - حدثنا أحمد بن يوسف , قال : ثنا أبو عبيد , قال : ثنا حجاج , عن هارون . قالوا : الهرب في مستوى الأرض , وبطون الأودية والشعاب , إصعاد لا صعود , قالوا وإنما يكون الصعود على الجبال والسلاليم والدرج , لأن معنى الصعود : الارتقاء والارتفاع على الشيء علوا . قالوا : فأما الأخذ في مستوى الأرض الهبوط , فإنما هو إصعاد , كما يقال : أصعدنا من مكة , إذا ابتدأت في السفر منها والخروج , وأصعدنا من الكوفة إلى خراسان , بمعنى خرجنا منها سفرا إليها , وابتدأنا منها الخروج إليها . قالوا : وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي . ذكر من قال ذلك : 6398 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { ولا تلوون على أحد } ذاكم يوم أحد أصعدوا في الوادي فرارا , ونبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في أخراهم , قال : " إلى عباد الله , إلى عباد الله " . وأما الحسن فإني أراه ذهب في قراءته : " إذ تصعدون " بفتح التاء والعين إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صعدوا الجبل . وقد قال ذلك عدد من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 6399 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم , دخل بعضهم المدينة , وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة , فقاموا عليها , وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلي عباد الله , إلي عباد الله ! " فذكر الله صعودهم على الجبل , ثم ذكر دعاء نبي الله إياهم , فقال : { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } 6400 -حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : انحازوا إلى النبي صلى , فجعلوا يصعدون في الجبل , والرسول يدعوهم في أخراهم . * -حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 6401 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس , قوله : { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } قال : صعدوا في أحد فرارا . قال أبو جعفر : وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : { إذ تصعدون } بضم التاء وكسر العين , بمعنى السبق والهرب في مستوى الأرض , أو في المهابط , لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة . ففي إجماعها على ذلك الدليل الواضح على أن أولى التأويلين بالآية تأويل من قال : اصعدوا في الوادي , ومضوا فيه , دون قول من قال : صعدوا على الجبل . وأما قوله : { ولا تلوون على أحد } فإنه يعني : ولا تعطفون على أحد منكم , ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا من عدوكم مصعدين في الوادي . ويعني بقوله : { والرسول يدعوكم في أخراكم } ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه في أخراكم , يعني أنه يناديكم من خلفكم : " إلي عباد الله , إلي عباد الله ! " . كما : 6402 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : { والرسول يدعوكم في أخراكم } إلي عباد الله ارجعوا , إلي عباد الله ارجعوا ! . 6403 - حدثنا بشر قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { والرسول يدعوكم في أخراكم } رأوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم : إلي عباد الله ! 6404 -حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , مثله . 6405 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : أنبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم , وهو يدعوهم لا يعطفون عليه لدعائه إياهم , فقال : { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } 6406 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { والرسول يدعوكم في أخراكم } هذا يوم أحد حين انكشف الناس عنه .
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } يعني بقوله جل ثناؤه : { فأثابكم غما بغم } يعني : فجازاكم بفراركم عن نبيكم , وفشلكم عن عدوكم , ومعصيتكم ربكم غما بغم , يقول : غما على غم . وسمى العقوبة التي عاقبهم بها من تسليط عدوهم عليهم حتى نال منهم ما نال ثوابا , إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم , فدل بذلك جل ثناؤه أن كل عوض كالمعوض من شيء من العمل , خيرا كان أو شرا , أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إليه , فإنه مستحق اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة , ونظير ذلك قول الشاعر : أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا فجعل العطاء العقوبة , وذلك كقول القائل لآخر سلف إليه منه مكروه : لأجازينك على فعلك , ولأثيبنك ثوابك . وأما قوله : { غما بغم } فإنه قيل : غما بغم , معناه : غما على غم , كما قيل : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } 20 71 بمعنى : ولأصلبنكم على جذوع النخل . وإنما جاز ذلك , لأن معنى قول القائل : أثابك الله غما على غم : جزاك الله غما بعد غم تقدمه , فكان كذلك معنى : فأثابكم غما بغم , لأن معناه : فجزاكم الله غما بعقب غم تقدمه , وهو نظير قول القائل : نزلت ببني فلان , ونزلت على بني فلان , وضربته بالسيف , وعلى السيف . واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم , وما كان غمهم الأول والثاني , فقال بعضهم : أما الغم الأول , فكان ما تحدث به القوم أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قتل . وأما الغم الآخر , فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح . ذكر من قال ذلك : 6407 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فأثابكم غما بغم } كانوا تحدثوا يومئذ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أصيب , وكان الغم الآخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم ; قال : وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وستون رجلا من الأنصار , وأربعة من المهاجرين . وقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } يقول : ما فاتكم من غنيمة القوم , ولا ما أصابكم في أنفسكم من القتل والجراحات . 6408 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : { فأثابكم غما بغم } قال : فرة بعد فرة , الأولى : حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل ; والثانية : حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين , حتى قتلوا منهم سبعين رجلا , ثم انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فجعلوا يصعدون في الجبل , والرسول يدعوهم في أخراهم . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , نحوه . وقال آخرون : بل غمهم الأول كان قتل من قتل منهم , وجرح من جرح منهم ; والغم الثاني : كان من سماعهم صوت القائل : قتل محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك : 6409 - حدثنا الحسين بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { غما بغم } قال : الغم الأول : الجراح والقتل ; والغم الثاني : حين سمعوا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قتل . فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنيمة , وذلك حين يقول : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } 6410 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { فأثابكم غما بغم } قال : الغم الأول : الجراح والقتل ; والغم الآخر : حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل . فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل , وما كانوا يرجون من الغنيمة , وذلك حين يقول الله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } وقال آخرون : بل الغم الأول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة ; والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشعب . وذلك أن أبا سفيان فيما زعم بعض أهل السير لما أصاب من المسلمين ما أصاب , وهرب المسلمون , جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أحد الذي كانوا ولوا إليه عند الهزيمة , فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه. ذكر الخبر بذلك : 6411 - حدثنا محمد بن الحسين , قال : ثنا أحمد بن المفضل , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة , فلما رأوه , وضع رجل سهما في قوسه , فأراد أن يرميه , فقال : " أنا رسول الله " ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا , وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن , فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه , ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا . فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ; فلما نظروا إليه , نسوا ذلك الذي كانوا عليه , وهمهم أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لهم أن يعلونا , اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد " ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم , فقال أبو سفيان يومئذ : اعل هبل ! حنظلة بحنظلة , ويوم بيوم بدر . وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب وكان جنبا فغسلته الملائكة , وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ; قال أبو سفيان : لنا العزى , ولا عزى لكم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : " قل الله مولانا ولا مولى لكم " . فقال أبو سفيان : فيكم محمد ؟ قالوا : نعم , قال : أما إنها قد كانت فيكم مثلة , ما أمرت بها , ولا نهيت عنها , ولا سرتني , ولا ساءتني . فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم , فقال : { فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } الغم الأول : ما فاتهم من الغنيمة والفتح ; والغم الثاني : إشراف العدو عليهم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة , ولا ما أصابكم من القتل حين تذكرون , فشغلهم أبو سفيان . 6412 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : ثني ابن شهاب الزهري , ومحمد بن يحيى بن حبان , وعاصم بن عمر بن قتادة , والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ , وغيرهم من علمائنا فيما ذكروا من حديث أحد , قالوا : كان المسلمون في ذلك اليوم لما أصابهم فيه من شدة البلاء أثلاثا : ثلث قتيل , وثلث جريح , وثلث منهزم , وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع , وحتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه , وأصيبت رباعيته , وشج في وجهه , وكلمت شفته , وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص . وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل , وكان الذي أصابه ابن قمئة الليثي , وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمدا . 6413 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال : فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة , وقول الناس : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن محمد بن إسحاق , قال : ثني ابن شهاب الزهري عن كعب بن مالك أخي بني سلمة , قال : عرفت عينيه تزهران تحت المغفر , فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا , هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأشار إلي رسول الله أن أنصت . فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض نحو الشعب معه علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب , وطلحة بن عبيد الله , والزبير بن العوام , والحارث بن الصامت في رهط من المسلمين . قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه , إذ علت عالية من قريش الجبل , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا " فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين , حتى أهبطوهم عن الجبل . ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدن , فظاهر بين درعين , فلما ذهب لينهض , فلم يستطع , جلس تحته طلحة بن عبيد الله , فنهض حتى استوى عليها ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف , أشرف على الجبل , ثم صرخ بأعلى صوته أنعمت فعال , إن الحرب سجال , يوم بيوم بدر , اعل هبل ! أي أظهر دينك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : " قم فأجبه فقل : الله أعلى وأجل , لا سواء , قتلانا في الجنة , وقتلاكم في النار " فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان , قال له أبو سفيان : هلم إلي يا عمر ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائته فانظر ما شأنه ! " فجاءه فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر , أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر : اللهم لا , وإنه ليسمع كلامك الآن . فقال : أنت أصدق عندي من ابن قمئة , وأشار لقول ابن قمئة لهم : إني قتلت محمدا . ثم نادى أبو سفيان , فقال : إنه قد كان في قتلاكم . مثلة , والله ما رضيت , ولا سخطت , ولا نهيت , ولا أمرت . 6414 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني ابن إسحاق : { فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } أي كربا بعد كرب قتل من قتل . من إخوانكم , وعلو عدوكم عليكم , وما وقع في أنفسكم من قول من قال : قتل نبيكم , فكان ذلك مما تتابع عليكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم , ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم ; حتى فرجت بذلك الكرب عنكم , والله خبير بما تعملون . وكان الذي فرج عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغم الذي أصابهم أن الله عز وجل رد عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم , فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا بين أظهرهم , هان عليهم ما فاتهم من القوم , فهان الظهور عليهم والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم , حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم . 6415 - حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج : { فأثابكم غما بغم } قال ابن جريج : قال مجاهد : أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا , فلما تولجوا في الشعب يتصافون وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب , فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا , فأصابهم حزن في ذلك أيضا أنساهم حزنهم في أصحابهم , فذلك قوله : { فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } قال ابن جريج : قوله : { على ما فاتكم } يقول : على ما فاتكم من غنائم القوم { ولا ما أصابكم } في أنفسكم . 6416 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : أخبرني عبد الله بن كثير , عن عبيد بن عمير , قال : جاء أبو سفيان بن حرب , ومن معه , حتى وقف بالشعب , ثم نادى : أفي القوم ابن أبي كبشة ؟ فسكتوا , فقال أبو سفيان : قتل ورب الكعبة , ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فسكتوا , فقال : قتل ورب الكعبة ! ثم قال : أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ فسكتوا , فقال : قتل ورب الكعبة ! ثم قال أبو سفيان : اعل هبل , يوم بيوم بدر , وحنظلة بحنظلة , وأنتم واجدون في القوم مثلا لم يكن عن رأي سراتنا وخيارنا , ولم نكرهه حين رأيناه ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : " قم فناد فقل : الله أعلى وأجل , نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا أبو بكر , وها أنا ذا ; لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة , أصحاب الجنة هم الفائزون , قتلانا في الجنة , وقتلاكم في النار " . وقال آخرون في ذلك بما : 6417 -حدثني به محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } فرجعوا فقالوا : والله لنأتينهم , ثم لنقتلنهم , قد خرجوا منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مهلا فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجل أنكم عصيتموني " . فبينما هم كذلك , إذ أتاهم القوم , قد أنسوا , وقد اخترطوا سيوفهم , فكان غم الهزيمة وغمهم حين أتوهم ; { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من القتل { ولا ما أصابكم } من الجراحة { فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا } . .. الآية , وهو يوم أحد . وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : معنى قوله : { فأثابكم غما بغم } أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين , والظفر بهم , والنصر عليهم , وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم ربكم , وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم , غم ظنكم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قتل , وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم . والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه , قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } والفائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إليه من غيرهم , إما من ظهور عليهم بغلبهم , وإما من غنيمة يحتازونها , وأن قوله : { ولا ما أصابكم } هو ما أصابهم إما في أبدانهم , وإما في إخوانهم . فإن كان ذلك كذلك , فمعلوم أن الغم الثاني هو معنى غير هذين , لأن الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , أنه ثابهم غما بغم , لئلا يحزنهم ما نالهم من الغم الناشئ عما فاتهم من غيرهم , ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم , وهو الغم الأول على ما قد بيناه قبل . وأما قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } فإن تأويله على ما قد بينت من أنه لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم والظهور وحيازة غنائمهم , ولا ما أصابكم في أنفسكم من جرح من جرح وقتل من قتل من إخوانكم . وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبل على السبيل التي اختلفوا فيه , كما : 6418 - حدثنا يونس , قال : أخبرنا وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } قال : على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون , { ولا ما أصابكم } من الهزيمة .
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
وأما قوله : { والله خبير بما تعملون } فإنه يعني جل ثناؤه : والله بالذي تعملون - أيها المؤمنون من إصعادكم في الوادي هربا من عدوكم , وانهزامكم منهم , وترككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم , وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم , وما أصابكم في أنفسهم - ذو خبرة وعلم , وهو محص ذلك كله عليكم حتى يجازيكم به المحسن منكم بإحسانه , والمسيء بإساءته , أو يعفو عنه
دعواتكم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق